المقاومة الفلسطينية في الضفة تقلب الحسابات

أم الشهيد الفلسطيني محمد التميمي (في المنتصف) تشيّع ولدها بحرقة في الضفة الغربية (موافع التواصل)

تصاعد العمل المسلح داخل الضفة المحتلة يعد تطورا مفاجئًا في مقاومة الشعب الفلسطيني ضد تهويد القدس والغطرسة الإسرائيلية، ويُظهر حالة الغضب من ممارسات الاحتلال الصهيوني التي بلغت ذروتها في الاقتحامات المتكررة للأقصى، والسعي لفرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد بالقوة المسلحة.

مع حالة الضعف العربي وأزمة السلطة في أكثر من دولة والهرولة إلى التطبيع المهين، ظن الإسرائيليون أن الظرف مواتٍ لتنفيذ كل أطماعهم، وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، لكن جاءت الانتفاضة المسلحة في الضفة لتؤكد أن الحسابات الصهيونية كانت خاطئة.

الانتفاضة هذه المرة لم تعد بالحجارة فقط، بل انتقلت من الدفاع إلى الهجوم بالدهس والطعن، وإلقاء العبوات الحارقة البدائية الصنع، ثم قفزت إلى مرحلة الأسلحة النارية والهجوم على الأكمنة والحواجز الثابتة، وانتهت بالهجوم من نقطة الصفر على العسكريين الإسرائيليين في عمليات نوعية تتسم بالجرأة والشجاعة.

عدي التميمي

قصة الشاب الفلسطيني عدي التميمي أصبحت رمزا للبطولة، وتكشف عن جرأة الجيل الجديد الذي لا يخاف الموت، والذي يقبل على الشهادة بعزيمة قوية وإرادة فولاذية، فقد ذهب بمفرده لقتل الإسرائيليين مرتين، أفلت في الأولى وأصابته الرصاصات في الثانية، وهو يواجه بصدره مهاجما وليس متخفيا.

في المرة الأولى ذهب عدي وهو يحمل مسدسه وهجم على مجموعة من الضباط والجنود الصهاينة على حاجز شعفاط بالقدس فقتل بعضهم وأصاب آخرين منهم، في مشهد نقلته الشاشات يعكس الثبات وقوة الروح الفدائية للشاب الفلسطيني، في مقابل ضعف الروح المعنوية للإسرائيليين الذين هربوا أمامه بأسلحتهم، وعندما استجمعوا قوتهم كان قد اختفى من المكان.

وفي المرة الثانية بعد 10 أيام، كرر عدي الهجوم بمسدسه على حراس مستوطنة معاليه أدوميم في القدس، وظل يقاتل حتى استشهاده في مشهد له دلالات ورسائل في كل الاتجاهات، وعبر في وصيته عن الفكرة التي أراد توصيلها بقوله: “أعلم أني لن أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا واضعا هدفا أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي”.

جيل الغضب

لفترة طويلة كانت المقاومة العسكرية قاصرة على غزة، وكانت الضفة هادئة، لكن الأوضاع تغيرت بسبب تنامي الغضب ضد الاحتلال، ونمو الوعي عند الشباب الذي كان يرى صمود غزة ملهما خاصة مع وحدة فصائل المقاومة.

العمل المسلح يتصاعد بقوة الآن في جنين ونابلس والقدس، وظهرت مجموعات جديدة لا تتبع الفصائل الفلسطينية المعروفة، مما أعطاها زخما وتأييدا شعبيا واسعا؛ ففي جنين توجد “كتائب جنين” وفي نابلس توجد مجموعة أعلنت عن نفسها باسم “عرين الأسود”.

وتظهر الحاضنة الشعبية في وداع وتشييع جثامين الشهداء، وفي الاستجابة الجماهيرية للحركات الجديدة، فعندما تصدر هذه الحركات بيانات تدعو فيها شباب الضفة إلى التظاهر والتصدي للاحتلال تكون الاستجابة واسعة، فمثلا عندما طلبت “عرين الأسود” من الفلسطينيين بالضفة الصعود إلى أسطح المنازل بالليل والتكبير والهتاف لفلسطين كانت الاستجابة هائلة.

تقوم الخلايا المسلحة يوميا بعمليات واشتباكات هجومية، ونظرا لتكون الخلايا من عدد قليل من الأفراد، وأحيانا يقوم فرد واحد بالهجوم فإن جهاز الأمن الإسرائيلي يقف عاجزا عن رصد واحتواء هذه الحركات الجديدة، التي ينضم إليها شباب غير مسجل أمنيا في القوائم الإسرائيلية أو قوائم الجهاز الأمني للسلطة الفلسطينية.

المفاجأة هي انضمام ضباط من السلطة الفلسطينية بخبرتهم العسكرية للمجموعات المسلحة الجديدة؛ فالذي قام بالهجوم على حاجز الجلمة في جنين هو ضابط الاستخبارات الفلسطيني أحمد عابد، وقد أسفرت العملية عن قتل ضابط إسرائيلي. وهذه الواقعة تكشف عن حجم الغضب الفلسطيني الذي لم يقف عند طبقات بعينها أو مستويات محددة.

مستقبل الضفة

عسكرة المقاومة في الضفة نتيجة منطقية لرفض الإسرائيليين تنفيذ الاتفاقات المبرمة مع سلطة أوسلو، مما جعلها مجرد سلطة أمنية تعمل لحماية الإسرائيليين من خلال ما يسمى التنسيق الأمني، ولعدم الالتزام بحل الدولتين رغم التنازلات التي قدمها الجانب الفلسطيني المفاوض والحكام العرب، والتجرؤ على العدوان على المسجد الأقصى، بجانب الجرائم المتواصلة في ملف الاستيطان والحصار والسجون والجدار الذي مزق الضفة.

هذا الطغيان الإسرائيلي يقابل الآن بحماس ناري للأجيال الجديدة التي يصعب احتواؤها، وإخمادها، فهذا الجيل الذي ولد بعد عام 2000 لا يقبل الإهانة، كما أنه لا يقبل الوصاية، وقد استفاد من التجارب فتخطى الانقسامات وأصبح يعمل من أجل فلسطين فنال تأييد كل الفصائل وكل الشعب الفلسطيني.

ليس أمام الاحتلال خيارات كثيرة، وما يفعله من حصار لخنق وتجويع جنين ونابلس سيوسع من دائرة الغضب، ويزيد من حجم المنخرطين في المقاومة الجديدة، بل سيتم استنساخ كتيبة جنين وعرين الأسود في باقي الأراضي الفلسطينية التي تظهر الآن تأييدها لما يجري من تحول في شكل وطريقة المقاومة.

****

كلما ظن الإسرائيليون أن الأرض دانت لهم لتحقيق أحلامهم أخرجت لهم الأرض المباركة جيلا أكثر شراسة، فلم تعد غزة تواجه الاحتلال وحدها، وإنما يتزلزل الكيان الاستيطاني كله مع انتفاضة الضفة التي توجه الطعنات المؤثرة للقلب الصهيوني وتنهي أسطورة الأمن الهش، وتفتح أبواب الرعب والقلق على المستوطنين الذين أغرتهم تمثيليات التطبيع المعزولة التي لا جذور لها.

المصدر : الجزيرة مباشر