الحرب الأوكرانية وتفكيك روسيا الاتحادية

مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 وانتصار الولايات المتحدة وحلفائها، كان من بين النتائج الأساسية التي ترتبت عليها تفكيك عدد من الإمبراطوريات التي كانت قائمة قبل الحرب، مثل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية ـ المجرية، وألمانيا، إلى دول وكيانات جديدة، وتكرر الأمر نفسه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، حيث تم تقسيم ألمانيا إلى دولتين، وتدمير الإمبراطورية اليابانية، وإعادة تشكيل منطقة شرق ووسط أوربا بعد، واتساع حركة الاستقلال في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

ثم تكرر الأمر مرة ثالثة، بعد نهاية الحرب الباردة 1991، حيث تم تفكيك الاتحاد السوفيتي إلى 15 جمهورية مستقلة، وتفكيك الاتحاد اليوغوسلافي إلى 6 جمهوريات جديدة، وتشيكوسلوفاكيا إلى دولتين، وتمت كذلك إعادة هيكلة خرائط شبه جزيرة البلقاء وشرق أوربا ووسط آسيا.

ومع تطورات الحرب الأوكرانية التي بدأت مع العدوان الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، تصاعد الحديث عن فرضية تفكيك الدولة الأوكرانية وخاصة مع إعلان روسيا ضم خمسة أقاليم من أراضي أوكرانيا، الأول إقليم القرم وتم ضمه 2014، ثم أقاليم لوجانسك ودونيتيسك وزابروجيا وخيرسون، في سبتمبر 2022.

إلا أنه في المقابل ظهرت بعض السيناريوهات التي تتحدث عن تفكيك روسيا الاتحادية، حال هزيمتها في هذه الحرب، أو سقوط الرئيس الروسي بوتين لأي سبب من الأسباب، وقبوله بشروط إجبارية تفرضها عليه الدول المنتصرة في الحرب، كما حدث مع نابليون 1815، وألمانيا 1919، و1945، وجورباتشوف 1991.

البداية من بريجنسكي

كما كان السياسي الأميركي جورج كينان مؤسسًا لاستراتيجية الاحتواء في السياسة الأميركية تجاه الاتحاد السوفيتي في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، عبر ورقة نشرتها مجلة “فورين أفيرز”، عدد يوليو 1947، طرح السياسي ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجينسكي مشروعًا لتفكيك روسيا الاتحادية في ورقة نشرتها مجلة “فورن أفيرز” أيضًا، عدد سبتمبر/أكتوبر 1997.

وكان من بين ما جاء فيها “إن الأولوية الأساسية لروسيا الاتحادية يجب أن تكون تحديث نفسها بدلًا من الانخراط في جهد عقيم لاستعادة منزلتها كقوة عالمية، وبالنظر إلى حجم البلد وتنوّعه، فإن نظامًا سياسيًا لا مركزيًا واقتصاد السوق الحر، سيكونان الأكثر قدرةً على إطلاق العنان للإمكانيات الإبداعية للشعب الروسي وموارد روسيا الطبيعية الهائلة”.

وأضاف “إن روسيا كونفدرالية فضفاضة، متكوّنة من روسيا أوربية، وجمهورية سيبيرية، وجمهورية الشرق الأقصى، وسيكون من الأسهل عليها في هذه الحالة أن تبني علاقات اقتصادية أوثق مع جيرانها، وسيكون كل كيان من تلك الكيانات قادرًا على الاستفادة من إمكانياته الإبداعية المحلية، التي طالما قيّدتها يد موسكو البيروقراطية على مدى قرون، وستكون روسيا اللامركزية أقل عرضة لتعبئة ذاتها إمبراطوريًا”.

وخلص بريجنسكي إلى أن الهدف هو تفكيك الدولة المركزية وتقسيم روسيا إلى ثلاث دول مبدئيًا، وتشجيع النزعات الانفصالية كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، وإعاقة قدرتها على استعادة منزلتها كقوة عالمية.

وتنبع أهمية ما ذهب إليه بريجينسكي (توفي عام 2017) أنه كان مشاركًا وبقوة في عملية صنع القرار التنفيذي الأميركي، وهو من أهم من صاغوا توجّهاته الاستراتيجية منذ 1977 حتى 2017، أي نحو 40 عامًا، مع إدارات كارتر، ريجان، بوش الأب، وكلينتون وبوش الابن، أوباما، وصولًا إلى ترامب.

وعندما كان مستشارًا للأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر، عمل على تعزيز العلاقات مع الصين لعزل الاتحاد السوفيتي، وظل مساهمًا فعالًا في بلورة التوجهات الاستراتيجية الأميركية الكبرى في الإدارات المتعاقبة، وخاصة ما يرتبط منها بمشروع تفكيك روسيا الاتحادية بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي.

بوتين وتحذيراته من المخططات الأمريكية

في حديثه في الذكرى العشرين لما تسميه روسيا “هزيمة الإرهاب في شمال القوقاز”، وتم تسجيله في داغستان (12 سبتمبر 2019) ونُشر لأول مرة في 10 مايو 2020، قال الرئيس فلاديمير بوتين “إن الذين موّلوا الإرهاب في شمال القوقاز الروسي قبل 20 عامًا، أرادوا تفكيك روسيا من الداخل، وكانت الفرصة متاحة لتنفيذ خططهم، وأضاف “لقد اتبعوا سياسية فرّق تسد، يريدون تقسيمنا، يريدون أن يحكمونا، ويمكن تطبيق ذلك في العلاقات بين الدول أو فيما يتعلق بدولة معينة في محاولة لتدميرها من الداخل، ثم كانت لديهم كل الفرص، لتحقيق وتنفيذ هذه الخطة البشعة، يجب أن نعلن ذلك بصراحة”.

وأضاف “هذه المحاولات لم تقتصر على القوقاز، بل تم رصدها في الشمال، والشمال الغربي، ووسط البلاد، وفي منطقة الأورال، وفي كل مكان. كانت مدونة وموجودة فيما يسمى بدساتير مختلف الجمهوريات، في 60 منها. في هذه الدساتير أو المواثيق تم تدوّين كل شيء باستثناء عبارات انتماء هذه الكيانات لروسيا الاتحادية”.

 

روسيا الاتحادية وخطوط التقسيم الكبرى

تتكون روسيا من ثماني مناطق اتحادية، والمناطق الاتحادية هي تجمعات للكيانات الاتحادية الروسية، ليست وحدات سياسية لكن فقط إدارية للتناسب والتنظيم الإداري من قبل الهيئات الحكومية، وكل منطقة لديها مبعوث رئاسي يلقب “الممثل المفوض لرئيس روسيا الاتحادية”.

وكانت بداية تأسيس المناطق الاتحادية عام 2000 بمرسوم رئاسي نص على أن هذه الخطوة الهدف منها “ضمان إنفاذ السلطات الدستورية لرئاسة روسيا الاتحادية”، ويتم تعيين الممثلين المفوضين من قبل الرئيس مباشرة.

وتضم قائمة المناطق الاتحادية الروسية، المنطقة المركزية (ومساحتها 650 ألف كم)، الجنوبية (420 ألف كم)، الشمالية الغربية (1.7 مليون كم)، الشرق الأقصى (6.3 ملايين كم)، سيبيريا (5.1 ملايين كم) شمال القوقاز (170 ألف كم) ثم أضيف إليها منطقة القرم في 21 مارس 2014، بعد ضمها من أوكرانيا (ومساحتها 26 ألف كم).

بمساحة إجمالية بمساحة تبلغ نحو 17 مليون كم مربع، تحتل بها روسيا المركز الأول عالميًا من حيث المساحة، وتمتلك في أراضيها أكبر احتياطي في العالم من الموارد المعدنية والطاقة (النفط، الغاز/ الفحم/ الكهرباء)، ولديها أكبر احتياطيات العالم من الغابات والبحيرات، تحتوي على ربع المياه العذبة في العالم.

وتتوزع المناطق الاتحادية الثمانية بين 85 كيانًا فدراليًّا، على النحو التالي: (22) جمهورية معظمها تتمتع باستقلال ذاتي في شؤونها الداخلية، وغالبًا ما تمثل كل جمهورية مجموعة عرقية واحدة أو أكثر، (46) إقليمًا (9) مقاطعات (4) أوكروجات (محافظات) (1) ولاية مستقلة ذاتيًا (3) مدن فيدرالية.

وهذه الخريطة مع كونها شديدة التعقيد من الناحية الإدارية، فإنها أيضًا شديدة التعقيد من الناحية العرقية، وتنوع الأقليات والعرقيات وتداخلها، وهو العامل الذي راهنت عليه الولايات المتحدة عندما تنبت استراتيجية التفتيت من الداخل في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وكانت أحد عوامل تدميره، وتتبنى الاستراتيجية نفسها في مواجهة الاتحاد الروسي، في إطار حزمة من الاستراتيجيات الداعمة والمساندة، مثل الاحتواء والحصار والعقوبات الاقتصادية والاستنزاف العسكري.

استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2022 واستهداف روسيا

مع صدور استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، أكتوبر 2022، تبنت إدارة بايدن موقفًا محددًا يقوم على أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم في إصلاح العلاقة مع روسيا طالما بقي فلاديمير بوتين في منصبه، مؤكدة مقولة “من الواضح الآن أنه لن يتغير”، وأعلن البيت الأبيض أنه ينتظر المستقبل عندما يقوم الشعب الروسي بتمكين حكومة مختلفة ملتزمة بالعمل ضمن معايير النظام الدولي الليبرالي الذي توجهه الولايات المتحدة، وهي المقولات نفسها التي تم تبنيها في التعاطي مع جورباتشوف في ثمانينيات القرن العشرين.

وجاء التحول في تفكير الولايات المتحدة واضحًا لدرجة أن الاستراتيجية لا تتوقع حتى إمكانية اتباع نهج تعاوني مع روسيا بوتين، في حين أكدت الوثائق الأمريكية السابقة أنه رغم تأكيد نقاط الاختلاف والتنافس، تكون هناك أجندة مشتركة قوية (مثل قضايا الاستقرار الأمني الاستراتيجي، ومكافحة الإرهاب، والطاقة، وأسلحة الدمار الشامل)، لكن استراتيجية 2022 لم تستخدم حتى مصطلح “التعاون، “ناهيك من مصطلح “الشراكة”، واستخدمت بدلًا من ذلك عبارة “أنماط تفاعلية براجماتية”.

وتضمنت استراتيجية 2022 خطوات من شأنها، إذا تم تنفيذها، أن تضرب بشكل مباشر أسس خطة بوتين لإحياء روسيا كقوة عظمى للقرن الحادي والعشرين، ومنعها من أن تصبح الرابط الجغرافي الاقتصادي الرئيس بين أوربا وشرق آسيا، وتقليص دورها كمزود آمن ومضمون للهيدروكربونات التقليدية ثم الهيدروجين والمعادن اللازمة لانتقال الطاقة الخضراء، والتصدي لسياساتها في القطب الشمالي، وتقليل أهمية روسيا ليس فقط لأوربا ولكن أيضًا لجنوب آسيا وشرقها.

وهو ما يعني في نهاية المطاف ترسيخ استراتيجية التفكيك، لأن بقاء روسيا على وضعها الراهن، سيشجع أي رئيس قادم يحكمها على تبني توجهات استراتيجية طموحة من شأنها تهديد المصالح الاستراتيجية وتهديد الهيمنة على قمة النظام الدولي من المنظور الأمريكي.

ماذا بعد؟

في 25 ديسمبر 1991، استقال ميخائيل جورباتشوف، فقد أراد إصلاح الشيوعية وليس استبدالها، لكنه لم يتمكن من احتواء قوى الطرد المركزي الناتجة عن إصلاحاته، فانتهى الاتحاد السوفيتي، وقال في خطابه الأخير، إن “النظام القديم انهار قبل أن يتاح لنظيره الجديد الوقت الكافي لبدء العمل”، فهل يمكن أن يتكرر الأمر مع بوتين؟

لقد استغل بوتين القومية الروسية، وهي قوة أكثر فاعلية للوحدة الوطنية مما كان عليه الوضع في الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فإن روسيا بوصفها دولة قومية أكثر استقرارًا وصلابة في عهد بوتين، لكنها تواجه بعض التحديات التي واجهها الاتحاد السوفييتي، مثل الاستبداد السياسي، والفساد المالي والإداري، وتراجع مستويات المعيشة وصراع النخبة السياسية.

وإذا كان من الصعب أن تتفكك روسيا في عهد بوتين إلى جمهوريات مستقلة، فإن الاحتمال قائم في مرحلة ما بعد بوتين، سواء كانت نهايته بالوفاة أو بسقوطه سياسيًا أو هزيمته عسكريًا، ويكون من بين التساؤلات المهمة التي يمكن طرحها مستقبلًا هو ما الذي ينتظر روسيا بعد بوتين؟ وإلى أي مدى ستتسم المرحلة الانتقالية بالعنف؟

يقول المفكر الأمريكي هربرت شتاين “إن لم يكن بوسع شيء ما الاستمرار إلى الأبد، فسيتوقف”، وإذا كان نظام بوتين فرديًا، كما أكد ذلك رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين في قوله “لا بوتين – لا روسيا”، فإن هذا يعني أنه لا يمكن لهذا النظام الاستمرار إلى الأبد طالما ارتبط مستقبل روسيا ببقاء بوتين من عدمه.

في الأخير، تبقى هذه النتيجة فرضية قائمة، ويجب التوسع في اختبار مدى صحتها أو خطئها من جانب الباحثين والمتخصصين، إلا أنني من وجهة نظر شخصية أقول إن احتمالات تحققها كبيرة، فروسيا لن تخرج من المستنقع الأوكراني منتصرة، ومع هزيمة بوتين واستنزاف قدرات الدولة اقتصاديًا، ستكون هذه العوامل محركات ومحفزات للتفكيك.

يبقى التذكير أن قليلين تنبأوا بسقوط الاتحاد السوفيتي، وصدقت تنبؤاتهم، فليس شرطًا أن تحظى الفرضية بتأييد الأغلبية حتى تثبت صحتها من خطئها، لنفكر ونستشرف ونراقب، وفي الأخير تبقى فرضية علمية.

المصدر : الجزيرة مباشر