معرض كتاب عربي في إسطنبول.. روائح مصرية

 

ملامح عربية تملأ أرجاء صالة كبيرة من إحدى صالات معرض إسطنبول المركزي بالقرب من مطار أتاتورك المطار الرئيس القديم في تركيا، وللعام الثاني على التوالي أتجول في أروقة المعرض، فقد توقف المعرض لمدة عامين بسبب وباء الكورونا وعاد العام الماضي إلى فعالياته بعد انتهاء الجائحة.

العام الماضي دعاني صديق صحفي لحضور حفل توقيع كتابه الجديد، وتابعت أيام المعرض، كان لدي إحساس كبير بالشوق للكتاب المطبوع، فقد خرجت من مصر تاركًا خلفي مكتبة كبيرة نتاج سنوات عمر من تجميع الكتب.

نعم تغير الحال وأصبح الكتاب الإلكتروني متاحًا للجميع، ولكن تبقي لرائحة أوراق الكتاب لدى جيل قديم مثلي لا يضاهيه إحساس، وكلما ذهبت إلى منزل أحد الأصدقاء في إسطنبول وأجد لديه كتبًا أستعير كتابًا أو اثنين ولا أردهما -أكرر في غربتي ما كان يحدث معي قديمًا- على أمل أن أجد حولي ما كنت أجده في مكتبتي في القاهرة.

الكتاب عشق قديم

أتابع فعاليات معرض الكتاب العربي في دورته السابعة هذا العام بحكم عملي الإعلامي، ولا أخفيكم سرًا إن قلت إنني أتابع أي فعالية للكتاب في إسطنبول، فعلاقتي بالكتاب المطبوع بدأت منذ سنوات بعيدة جدًا، وهذا قد يبدو غريبًا على طفل نشأ في الريف مثلي.

كان والدي -رحمه الله- عاشقًا للكتاب والسينما رغم أنه لم يستكمل تعليمه، لكن كتب نجيب محفوظ، علي أحمد باكثير، إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، بالإضافة إلى كتب السيرة والعبقريات للعقاد وبجوارها كتب أجاثا كريستي وبعض الروايات الأجنبية المترجمة كانت من مقتنيات والدي، إضافة إلى عادته النصف الشهرية في الذهاب إلى القاهرة لمشاهدة السينما.

صغيرًا في العاشرة حين قادتني قدماي إلى سطح منزلنا القديم المبني بالطوب “اللبن” لأجد الكنز الورقي الذي أعتقد أنه ميراثي الحقيقي من والدي.

تفتحت أمامي عوالم جديدة من أوراق بعضها أصبح ذا لون أصفر من قدمه، وبعضها تلف غلافه الرئيس، وكانت تلك بداية علاقة مع الكتاب المطبوع لم تنتهِ حتى الآن لدرجة أنني أصبحت مصابًا بمرض شراء الكتب أو استعارتها من الأصدقاء.

ما أن تقع عيني على أغلفة كتب حتى أقف متسمرًا أمامها، وفي معرض إسطنبول أتحاشى النظر كثيرًا إلى المعروض من الكتب العربية والتركية المترجمة للعربية، حتى لا أفعل ما فعلت مع المفكر المصري جابر عصفور حين كافأني على حوار إعلامي معه بنسخة من كتب المجلس الأعلى للثقافة في مصر، فذهبت إلى المخازن بعربة نصف نقل، فالآن لا يمكن شراء كل ما أرغب فيه من الكتب، كما أن ما كان يتسع له منزلي في مصر لا يسعه مكاني في الغربة الضيقة مكانًا وروحًا.

مكالمة من القاهرة

مفاجأة معرض الكتاب العربي في إسطنبول هذا العام كانت مكالمة من القاهرة من صديقي الكاتب الصحفي والمؤرخ محمد الشافعي رئيس تحرير سلسلة كتب من سلاسل دار الهلال، فدار النشر التي تنشر كتبه قادمة إلى تركيا للمشاركة بالمعرض.

رغم أن هناك كثيرًا من دور النشر المصرية موجودة في تركيا وإسطنبول تحديدًا، إلا أنني في كل معرض من المعارض أسأل عن القادمين من مصر، فهنا رائحة الوطن الذي يغيب عنا قهرًا، لكنه حاضر دومًا روحًا وعقلًا، أحيانًا لا أستطيع أن أدرك أنني هنا بل دائمًا ما تصبح كلمة هنا، أو “البلد دي” مرادفًا في عقلي وقلبي إلى مصر رغم أنني أقصد تركيا.

مفاجأة صديقي ووجودي في معرض الكتاب العربي تعني رائحة مصر، وما أدراكم ما رائحة الوطن في الغربة؟ وفي معرض إسطنبول تشم روائح البلدان العربية كلها، حيث يصادفك القادمون من فلسطين المحتلة فتتفتح روحك بهواء القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وتشم روائح بغداد ودمشق وتونس وليبيا وطنجة وعدن، وهناك من يجعلك تتوهج بلقاء القادمين من مكة أو المدنية.

منذ أيام قابلني صبي من المدينة المنورة في إحدى وسائل المواصلات كان يسأل عن مكان في إسطنبول، أجبته بلهجتي المصرية، فقال “مصر أم الدنيا”، وقلت وكل بلادنا العربية خالتها، طلبت منه أن يدعو لي في الحرم النبوي فوعدني.

لا يمكن أن تتخيل مدى شعورك في تلك اللحظة، بل لا تتخيل شعورك حين ترى القادمين من بقاع الوطن العربي، ويصادفك أحدهم بشارع في المدينة التي قلت يومًا إنها جعلت وحدة العرب حقيقة، ولكن في غربة قسرية كانت أو اضطرارية أو في رحلة سياحية.

ملامح عربية في إسطنبول

لأول وهلة حينما تتجول في المدينة الساحرة الشديدة الجمال والروعة تشعر بألفة كأنك في بلد عربي، فحاراتها وأزقتها القديمة تأخذك إلى القاهرة القديمة وبغداد، ومنذ مدة قصيرة كنت أشاهد فيلمًا مصريًا اسمه بابل حبيبتي إنتاج مصري عراقي مشترك، وهو فيلم أقرب إلى الأفلام الوثائقية التاريخية، فرأيت ملامح من دمشق وحارات القدس القديمة وإسطنبول.

الأذان المتكرر من مآذن إسطنبول ينقلك إلى حي الحسين وأحياء مصر الشعبية خاصة أن الأذان في تركيا شبيه بأصوات المؤذنين الأزهريين، في إسطنبول أكثر من 4000 مئذنة ومسجد، فلا يمكن أن تنظر في أي مكان إلا وتجد مأذنة عثمانية وهي مئذنة طولونية، وتشبه إلى حد كبير مأذنة مسجد أحمد بن طولون في القاهرة.

عادات كثيرة مشتركة تجدها في أزقة إسطنبول وشوارعها القديمة مشابهة لعادات الحارة الشعبية المصرية الاجتماعية، فقد تجد مثلًا جلسة نساء أمام منازلهم، جلسات الشرفة وحديث الأسر بين الشرفات في هذه المدينة التي تشبه جغرافيًا المدن العربية الساحلية، فقد كان انطباعي الأول عنها أنها مثل الإسكندرية التي أعرفها في شبابي، واكتشفت مع الأيام أنها مثل كل مدننا العربية التاريخية.

يصادفك في معرض الكتاب العربي في إسطنبول عرب تتآلف معهم سريعًا، ومصريون يعيدون النبض والحياة إلى قلبك، ولكنك ستجد أتراكًا يتحدثون العربية معك بألفة شديدة، ويفاجئك أحدهم أنه تعلم العربية في الأزهر الشريف حين يعرف أنك مصري، يستعيد معك ويعيدك معه إلى روائح مصرية، روائح مصر التي تسكن في شغاف الروح.

المصدر : الجزيرة مباشر