“حجر رشيد” استولت عليه بريطانيا الاستعمارية.. متي يعود؟

شامبليون

تحل هذه الأيام ذكرى مرور 200 عام على اكتشاف العالم الفرنسي جون فرانسوا شامبليون (1790- 1832) أسرار ورموز اللغة الهيروغليفية وفك طلاسمها، مستعينًا بـ”حجر رشيد” أهم قطعة أثرية مصرية، الذي يُعد أول ممر إلى تاريخ الممالك المصرية القديمة. هذا الحجر استولت عليه بريطانيا في زمن الاستعمار، اغتصابًا (عام 1801). تزامنًا مع هذه الذكرى، أطلقت عميدة كلية الآثار في الأكاديمية العربية للعلوم والنقل البحري المصرية الدكتورة مونيكا حنا “حملة شعبية” قانونية وأخلاقية ضغطًا على بريطانيا، لاستعادة “حجر رشيد” المعروض في متحف لندن. وتقود “مونيكا” فريقًا بحثيًّا، لجمع الوثائق من الأرشيفات والجهات المعنية، وتقديم ملف كامل إلى رئيس الوزراء المختص قانونًا، للمطالبة باسترداد الآثار المسروقة.

 شروط المنتصر البريطاني على المهزوم الفرنسي.. الدولة العثمانية غائبة

عام 1801، هبطت القوات البريطانية على مصر غازية في مارس/آذار، وهزمت القوات الفرنسية في “معركة أبو قير” الثانية، التي فرت إلى داخل الإسكندرية، فحاصرها البريطانيون، واستسلم الجيش الفرنسي الذي كان محتلًّا لمصر (الحملة الفرنسية: 1798- 1801). على قاعدة “المنتصر يفرض شروطه على المهزوم”، تم توقيع اتفاقية بين الجيش البريطاني المنتصر، وخصمه الفرنسي المهزوم، لاستسلام الأخير، ورحيله في سلام، شريطة تنازله عن “حجر رشيد” وقطع أخرى، الذي عرف به العالم -حينذاك- كـ”غنائم حرب” لهم، وهو ما تم فعليًّا. هكذا تنازل الجيش الفرنسي عما لا يملك لمن لا يستحق، فـ”مصر” وقتها، ولاية عثمانية منذ عام 1517، بينما الدولة العثمانية غائبة، ولم تكن طرفًا في تلك الاتفاقية العسكرية.

طابية قايتباي.. الصدفة المنحازة لمهندس التحصينات بوشار

“حجر رشيد” ارتبط بحكايات مثيرة، فقد أسند قائد الحملة الفرنسية على مصر نابليون بونابرت، قيادة جنوده في مدينة رشيد إلى الجنرال جاك فرانسوا منو (1750- 1810). هناك تولى الضابط مهندس التحصينات بيير فرانسوا بوشار، ترميم طابية أو قلعة قايتباي، وسُميت فرنسيًّا “حصن سان جوليان”. القلعة قريبة من مدينة رشيد، تطل على الشاطئ الغربي لفرع النيل بها، وأقامها على غرار قلعته في الإسكندرية، السلطان الأشرف أبو النصر قايتباى (من سلاطين دولة المماليك الشراكسة) عام 1482، لصد الغارات الصليبية، وتحسبًا لزحف “الدولة العثمانية” الناشئة لتوها، والتي أسقطت حكم المماليك لاحقًا، واستولت على دولتهم عام 1517. “الصدفة لا تنحاز إلا إلى الذهن المتقد” وفق ما يقول الكيميائي لويس باستور (1822- 1895)، ولذا ففي أثناء أعمال الترميم، عثر الجنود على حجر شديد الصلابة من الجرانيت الأسود اللامع، عليه نقوش غامضة باللون الأبيض. كأن “بوشار” كان متقد الذهن في اللحظة نفسها، فأدرك في الحال، أن هذا “الحجر” ليس عاديًّا، فسارع به إلى الجنرال “منو”، الذي أمر بإرساله إلى المجمع العلمي المصري (أُسِّس بأمر نابليون في أغسطس/آب عام 1798).

 معابد العجل أبيس.. ومبايعة للملك بطليموس الخامس

يوم 19 من يوليو/تموز 1799، أعلن عالم فرنسي في “المجمع”، العثور على نصوص منقوشة على حجر في رشيد، قد تكون ذات أهمية وفائدة كبيرة، بعد أن ألقى عليه نابليون نظرة إعجاب. يبلغ طول الحجر 115 سنتيمترًا، وعرضه 73 سنتيمترًا، ومنحوت عليه ثلاثة نصوص مختلفة، تبين لاحقًا أنها ترجع إلى ثلاث لغات قديمة، هي الهيروغليفية،  والديموطيقية أو القبطية، واليونانية. وفقًا لهيئة الآثار المصرية (حكومية)، فإن تاريخ الحجر يرجع إلى عام 196 قبل الميلاد. على طريقة المصريين بطول الزمان في المبايعة للحاكم، فإن الكتابة المنقوشة على الحجر هي رسالة شكر ومبايعة من الكهنة، للملك بطليموس الخامس، في ذكرى تتويجه التاسعة، ويسردون فيها أفضاله، بمنح المال والغلال إلى “المعابد”، وإسقاط ديون الحكومة لدى الأفراد، وتخفيف الضرائب عنهم، والعفو عن السجناء والتائبين، وترميم معابد العجل أبيس، وغيرها.

شامبليون ومصر القبطية.. وفك طلاسم الهيروغليفية

عودة إلى العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون (1790- 1832)، وقصة اكتشافه لأسرار ورموز اللغة الهيروغليفية لغة الممالك المصرية القديمة، وفك طلاسمها، بما فتح الباب واسعًا للوقوف على تاريخ تلك الممالك القديمة وأسرارها، وعلومهم وطُرق تفكيرهم وإنجازاتهم. استعان شامبليون بنسخة من الكتابة والرموز المنقوشة على “حجر رشيد”، سبق أن أعدها العلماء الفرنسيون بدقة متناهية، على ورق مقوى باستخدام الأحبار، حين تم إرغامهم على تسليمه إلى البريطانيين. أدرك شامبليون مبكرًا، خلال رحلته التي امتدت 23 عامًا، لفك طلاسم الهيروغليفية، أن الحل يكمن في اللغة القبطية، بعدما تبين له أن كلمة “قبط” هي المرادف العربي لكلمة “إيجيبتوس”، وأنها الاسم اليوناني لمصر.

المصري يوحنا شيفتشي.. وموت آخر كهنة مصر القديمة

أقبل شامبليون على تعلّم اللغة القبطية، وأتقنها تمامًا مثل إجادته للغته الفرنسية، على يد كاهن مصري مقيم في فرنسا آنذاك، هو “يوحنا شيفتشي”. داوم شامبليون على حضور “القداس” مع الكاهن في كنيسة سان روش، إذ لا تزال اللغة القبطية تُستخدم في الصلوات. أعلن شامبليون للعالم، في 27 من سبتمبر/أيلول عام 1822، توصّله إلى فك رموز اللغة الهيروغليفية وأسرارها، وأرسل إلى مدير أكاديمية العلوم والفنون الفرنسية “مسيو داسييه” يخبره بهذا الاكتشاف التاريخي العظيم، كاشفًا أن اللغة الهيروغليفية توقف استخدامها منذ القرن الرابع الميلادي تمامًا مع موت آخر كهنة مصر القديمة، وأن الهيروغليفية لغة مركبة، تشمل نصًّا منقوشًا ورمزًا، ونطقًا في آن واحد.

من الملائم تشكيل الحكومة المصرية فريقًا قانونيًّا يضم خبراء آثار، للمعاونة في دراسة كيفية استعادة “حجر رشيد” الذي استولت عليه بريطانيا الاستعمارية. هذه الخطوة ستكون بداية جيدة لاسترداد آثارنا المسروقة على مدار مئات السنين، وهي بآلاف القطع التي تزدحم بها متاحف الدنيا، وهذا لا يمنع تشجيع المبادرات الشعبية على غرار مبادرة الدكتورة مونيكا حنا.

نسأل الله السلامة لمصر.

المصدر : الجزيرة مباشر