ليس بطلا روائيا ولكنه شخصية حقيقية: السندباد البحري.. من أنت؟

تمثال مصنوع من الليمون والبرتقال يصور سندباد البحار

 

يجلس الجد فوق سرير الحفيد، وبيده كتاب لقصص ما قبل النوم، اعتاد الحفيد أن ينام بعد حكايات الجد المثيرة، يسافر خياله كل ليلة عبر الحكايات إلى أراضٍ تحفل بالسحر والخوارق، يغمض عينيه ليجد نفسه تارة على جناح طائر الرخ الأسطوري، يطير فوق أهرامات الجيزة، وقلاع بغداد الأسطورية، يمر على الخليج العربي، ينعكس على وجهه وميض أشرعة المراكب البيضاء، وأغاني طيور النورس المبهجة، يستمتع الجد كثيرا بما يقدمه من حكايات مشبعة للحفيد.

رحل الجد، وأصبح الحفيد رجلا أربعينيا مثقلا بالهموم، تحمله الدنيا إلى أعلى، وتقذف به ليسقط على ظهره متألما، كل شيء فقده في الرحلة إلا كتاب الحكايات، أخذ يقرأ منه كل ليلة، تلك الرحلات العجيبة التي باتت تمسح أوجاعه.

أليس في بلاد العجائب، بيضاء الثلج، بينوكيو، علاء الدين والمصباح السحري، والسندباد البحري الذي لطالما شغل خياله وهو صغير، وسأل جده مُلحّا في السؤال: السندباد كان عربيا!! هل هذا صحيح؟

السفينة صُحار

السندباد البحري، تلك الشخصية الأسطورية الشهيرة التي ذُكرت في كتاب “حكايات ألف ليلة وليلة”، على لسان البطلة الفارسية شهرزاد، ترويها للملك شهريار في محاولة منها لإلهائه عن إعدامها بالسيف، وبفضل حكاياتها المسلية، تمكنت شهرزاد من إلهاء الملك بقصصها الشيقة لتنقذ بذلك حياتها، وتفوز بقلب شهريار.

تعددت الأقوال عن أصل شخصية السندباد البحري، أغلبها يشير إلى أنه ينحدر من بغداد، ومن المحتمل أن يكون فارسي الأصل، لأن اسم السندباد يأتي من الكلمة الفارسية “سند” التي تعني سيد نهر السند، ونهر السند هو أطول نهر في باكستان، ولكن العُمانيين يؤكدون أن السندباد هو بحّار من مدينة “صُحار”، التي كانت عاصمة قديمة لعُمان، في فترات زمنية مختلفة، وأشهر مدنها، لما تتمتع به من موقع استراتيجي على ساحل بحر عمان.

أسد البحار

وقد حظيت مدينة “صُحَار” بإشادة العديد من الرحالة والجغرافيين الذين زاروها، والحقيقة التي لا جدال بشأنها هي علاقة العُمانيين بالبحر، ودورهم البارز في تطوير الملاحة البحرية، لا سيما دور الملّاح والجغرافي الشهير “أحمد بن ماجد السعدي”، الذي ولِد في مدينة جلفار (رأس الخيمة حاليا)، وكان من أعلم البحارة في زمانه، وله العديد من الإسهامات في إرساء قواعد الملاحة للعالم، سواء من خلال اختراعاته أو مؤلفاته في علوم البحار، مما أكسبه لقب “أسد البحار”.

ونظرا لثراء شخصية ابن ماجد، فقد نسب إليه العُمانيون شخصية السندباد، وقيل إنها مأخوذة عنه.

وعلى الرغم من ثراء شخصية ابن ماجد، فإن نسب شخصية السندباد البحري إليه غير صحيح بأي حال من الأحوال، لأن ابن ماجد عاش في الفترة من 1421 إلى 1500، وهي فترة متأخرة جدا عن زمن تدوين حكايات السندباد في “ألف ليلة وليلة”.

البحث عن أصل السندباد

ولأن قصة السندباد البحري من القصص الملهمة في الروايات والسينما والدراما، فقد قام رحالة -ومنهم كاتب الرحلات والمستكشف البريطاني تيم سيفيرين- بالبحث عن أصل الحكاية، ومن أين أتى السندباد؟ وهل هي قصة من محض الخيال أم لشخصية حقيقية؟

بدأ سيفيرين بتتبّع أصل الحكاية من سلطنة عُمان التي ذهب إليها، ومن حُسن حظه أن السلطان قابوس كان مهتما أيضا بمعرفة أصل الحكاية، لدرجة أنه أصدر أوامره ببناء سفينة تجارية على نفقته الخاصة، على غرار السفن التي كانت سائدة في عهد السندباد، تم إطلاق اسم “صُحار”، عليها، على أن تُصنع في مدينة “صور” المعروفة بصناعة السفن التي هي من الصناعات التقليدية المشهور بها الشعب العُماني منذ القدم.

استمر بناء السفينة 165 يوما، وبعد إتمام بنائها واختيار طاقهما، قام سيفيرين برحلته في عام 1980، التي استغرقت أكثر من سبعة أشهر، مرورا بشواطئ الهند وسريلانكا وإندونيسيا وماليزيا، وصولا إلى مدينة كانتون الصينية التي كانت تربطها بعُمان علاقات تجارية وثقافية.

لم يواجه سيفيرين وطاقمه وحوشا مفترسة كما واجه السندباد، ولكن واجهته مخاطر أخرى، وهم يسابقون الرياح عبر بحر الصين الجنوبي، فانكسر شراعهم مرة، ومرة أخرى كانوا على وشك الاصطدام بسفينة ضخمة.

وقد دوّن سيفيرين رحلته التي خاضها عبر البحار والمحيطات وصولا إلى أبعد السواحل وأعجب الجزر، في كتاب سمّاه “في أعقاب السندباد”.

يقول سيفيرين في كتابه “إن حماس وكرم سلطان عُمان وشعبها وإصرار الرجال الذين بنوا السفينة وأبحروا فيها، كل هذا جعل رحلة السندباد واقعا حقيقيا. والآن أصبحت هذه الرحلة -مثل رحلات السندباد السبع- قصة أخرى”.

ويؤكد سيفيرين أن شخصية السندباد ليست خيالية، وأنه كلما أوغل في قصة السندباد، ازداد يقينه بأنه ليس بطلا روائيا لقصص الأطفال، وإنما شخصية حقيقية مثل قباطنة البحر والتجار الذين وصلوا إلى أقصى حدود العالم المعروف.

إن المعلومات المتوافرة عن السندباد تبدو متباينة في كثير من الأحيان، فمنها ما يرجّح أنه عاش في حقبة الخلافة العباسية، ومنها ما يؤكد أنه شخصية خيالية، تواتر عليها الكثير من الكتّاب وأضافوا إليها، من أجل سرد ما يحلو لهم من حكايات، ويتشابه في ذلك مع شخصية جحا أيضا، الموجود في ثقافات عديدة، ومثل الكثير مما ذكره العرب في أشعارهم باسم ليلى أو سعاد، وغيرهما من بطلات قصص الحب القديمة، في إشارة إلى كل امرأة جميلة، وكما قال الشعراء: (يقولون ليلى في العراقِ مريضةٌ) (بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ) (سلبتْ ليلى منّي العقلَ).

وتبقى قصص الأساطير محفورة في الأذهان، ولا يزال الحفيد يقرأ في كتاب الأساطير، يتذكر جده العظيم، يمسح دمعة تترقرق في عينيه، ويغمضهما، ثم ينام متذكرا تلك الأيام الجميلة بكل خير.

المصدر : الجزيرة مباشر