ثلاثي الديمقراطية والنهضة والتاريخ: ماليزيا والبرازيل وتركيا!

مهاتير محمد

هذا المقال يتحدث عن ثلاث شخصيات، هم بترتيب توليهم السلطة في بلدانهم: مهاتير محمد في ماليزيا، ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا في البرازيل، ورجب طيب أردوغان في تركيا.

والمناسبة الرابطة بين هؤلاء الثلاثة، أنهم ترشحوا -وهم في سن متقدمة- إلى انتخابات عامة لمواصلة الحكم أو العودة إليه، وأن أنظمة الحكم في بلدانهم ديمقراطية، والدستور يحظى بالاحترام، ولهم الفضل في تكريس الديمقراطية، وعدم المس بالدستور للتحايل والبقاء في السلطة.

والقادة الثلاثة انطلقوا بشعوبهم إلى الأفضل في بلدان فقيرة، عانت كثيرًا من صراعات الحكم والسياسة والانقلابات وأزمات الاقتصاد وتردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، فانتشلوها، وحولوها إلى بلدان ناهضة، ووفروا حياة مريحة لشعوبهم.

الدين والعلمانية والديمقراطية

بلدان من هذه البلدان المحظوظة بالقادة التاريخيين في آسيا وهما ماليزيا وتركيا، ومن جميل الأقدار أن غالبية سكانهما مسلمون؛ مما يعني أن الإسلام قوة تطور وتنوع سياسي وديمقراطي، وليس عائقًا أبدًا أمام النهوض، والبلد الثالث في أمريكا اللاتينية وهو البرازيل، وغالبية سكانه من المسيحيين.

ودور الدين لم يكن طاغيًا على السياسة، والسياسة لم تقم بإقصاء الدين كليًّا، فالشعب الماليزي محافظ، والتجربة التركية الأردوغانية تنزع خصام العلمانية مع الدين، كما كان حاصلًا في البداية على أيدي مصطفى كمال أتاتورك، وفي البرازيل علمانية وحرية دينية في نفس الوقت.

هؤلاء الزعماء ينتمون إلى عالم الجنوب، لكنهم أثبتوا أن القدرة على الاقتراب من عالم الشمال المتقدم صانع الحضارة الحديثة ومحقق الرفاهية لشعوبه أمر سهل وممكن، وليس عقدة أو معضلة.

شروط صنع تنمية حقيقية

مشروع التنمية وعبور التخلف بحاجة إلى قيادة مخلصة صادقة صريحة عاقلة مُفكرة مُنتخبة بإرادة شعبية، وينبغي أن تخرج تلك القيادة من وسط الناس، وأن تكون معايشة لهم فتشعر مثلهم بالمعاناة والمشاكل لتصير جزءًا من هذه المعاناة، قيادة لا تهبط بمظلة على قصر الحكم، ولا تقود دبابة لتحتل قصر الحكم، ولا تطيح بنظام ديمقراطي ناشئ فتصادره لتنفرد بالحكم.

والسياسة مفتاح الاقتصاد، والمدخل الطبيعي للتنمية، طبيعة السياسة تحدد شكل الحياة والاقتصاد والتنمية والعيش وحياة الناس، إذا كانت سياسة ديمقراطية حرة فإن التفاؤل يسري في شرايين الاقتصاد، ويأتي الاستثمار مطمئنًّا، وينشط الناس ويعملون ويجتهدون ويبدعون ويرتبطون بأوطانهم وأهداف أنظمتهم المنتخبة وتتحقق النهضة كما حصل في ماليزيا والبرازيل وتركيا، وكما تحققت في بلدان أخرى سارت على طريق الانفتاح السياسي والحريات وتداول السلطة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وغيرها.

والسياسة إذا كانت مُقيدة ومرهونة بإرادة فرد واحد هو الحاكم المستبد أو الحزب الحاكم السلطوي، وكان المجال العام مغلقًا، والأصوات المخالفة مخفاة قسريًّا، وكل وسائل وآليات الرقابة والمحاسبة مُغيّبة، والهيئات والتنظيمات والقوى الشعبية والناعمة مرعوبة أو مشطوبة من الحياة العامة، فإن هذه البلدان في طريقها لحوائط مسدودة، وستظل في أزمات، ولن تخرج من دوائر الفقر والتخلف والحرمان والقمع، وهذا هو حال بلدان عربية وأفريقية وآسيوية لا تزال تعاند تطور الحياة، وحركة التاريخ، وتخاصم دروس تجارب النجاح؛ القريبة منها والبعيدة عنها.

مهاتير.. الأسطورة

مهاتير محمد (98 عامًا) يستعد لخوض الانتخابات العامة الشهر المقبل، ويقود تحالفًا سياسيًّا للفوز، ولكنه لم يكشف عن نيته تولي رئاسة الحكومة للمرة الثالثة.

مهاتير أبو النهضة في ماليزيا الحديثة، صعد سلم السياسة في بلاده منذ شبابه بالكفاح والتفكير ورصد معضلات التخلف في وطنه ووضع الحلول الخلاقة لها، وشكل الحكومة عام 1981 وواصل الفوز بالانتخابات العامة حتى تقاعد طوعًا عن الحكم في 2003، وخلال 22 عامًا دشّن ماليزيا جديدة متطورة صناعيًّا وإنتاجيًّا وزراعيًّا، وجعل أعراقها الثلاثة تنصهر في بوتقة الوطنية، ووفر حياة اجتماعية مريحة لكل المواطنين، وعندما تفشّى فساد في الحكم فيمن خلفوه، فإنه عاد لقيادة تحالف حزبي للفوز بالانتخابات عام 2018، وشكل الحكومة، ثم استقال بعد عامين.

لولا دا سيلفا.. العظيم

لولا دا سيلفا (77 عامًا) سيخوض في 30 أكتوبر/تشرين الأول الجاري جولة الإعادة للفوز بالرئاسة في البرازيل ضد منافسه الرئيس اليميني المنتهية ولايته جايير بولسونارو، واستطلاعات الرأي ترجح فوزه والعودة إلى قصر الحكم للمرة الثانية بعد فوزه بالرئاسة دورتين سابقتين (يناير 2003  ويناير2011).

سيلفا صانع نهضة البرازيل ترك الحكم طوعًا ورفض مناشدات بتعديل الدستور ليبقى مددًا أخرى، فقد كان مخلصًا لنضاله من أجل الحريات، وهذا سر عظمة ذلك اليساري المؤمن بالديمقراطية الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة، ولو كان عصف بالدستور وصنع دكتاتورية مدنية شبيهة بالدكتاتوريات العسكرية التي أرهقت بلاده وكافح ضدها، ثم اضطر إلى مغادرة الحكم يومًا، فلم يكن ليجد ديمقراطية تتيح له الترشح مجددًا، وهذا ساهم في رفع شأنه وشعبيته ولدى أنصاره تفاؤل بالفوز وإعادة البرازيل إلى مشروع التنمية الاجتماعية والاقتصادية الذي نفذه سيلفا خلال حكمه وساهم في تخليص البلد من آفة الفقر المدقع والفساد والضياع ووضعه على خريطة العالم الناهض.

أردوغان.. إنجازات باهرة

العام المقبل 2023 يعتبر مفصليًّا في المسيرة السياسية لأردوغان (68 عامًا) وحزبه العدالة والتنمية، حيث سيخوض انتخابات رئاسية وتشريعية، ويأمل الفوز ومواصلة الحكم الذي بدأه بانتصار ساحق في الانتخابات العامة 2002 مُحدثًا زلزالًا سياسيًّا في تركيا والعالم لحزب حديث العهد لم تمر على تأسيسه سنوات، ويكون الإنجاز الباهر أنه ينقل البلاد من الفقر والتخلف والفساد إلى التنمية والنهضة الجادة التي يقطف ثمرتها الشعب التركي؛ لهذا خرج الشعب مدافعًا عن منجزاته وديمقراطيته وحريته ضد محاولة انقلاب عسكري في 2016، ويظل هذا الشعب يكافئ أردوغان وحزبه بجعله يفوز في الانتخابات التشريعية، ويقف بجانبه في استفتاءات دستورية حرة لتعديل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، ويواصل وضع ثقته في زعيمه الذي يسهر على خدمته.

شيّد أردوغان تركيا جديدة صناعية واقتصادية وإنتاجية وتجارية واستثمارية واجتماعية وسياسية، ورغم وجود أزمات اقتصادية فإن البلد تم بناؤه بالفعل، ولديه ذخيرة من البنية التحتية والصناعية والخدمية، وما دامت سياسات الحكومة مُراقبة من المعارضة القوية الشرسة، ومن الإعلام والشعب والقوى الناعمة، فإن نسب الأخطاء تقل، والتصحيح يحدث باستمرار، وتركيا والبرازيل ضمن مجموعة العشرين لأقوى اقتصادات العالم، وماليزيا تتمتع كذلك بقوة الاقتصاد والاستثمار.

هذه الزعامات ذات أثر كبير في بلادها ومحيطاتها الجغرافية والعالم، بفضل إيمانها بالديمقراطية، ووصولها إلى الحكم بإرادة شعبية، والبقاء في السلطة أو العودة إليها بالاختيار الحر النزيه في انتخابات تنافسية جادة، وترك بصمات واضحة في مشروعات التنمية الشعبية.

المصدر : الجزيرة مباشر