الأيام الأخيرة لفرنسا في أفريقيا

ماكرون في إفريقيا.. هل تصبح صورة من الماضي؟

رياح التغيير التي تهب على وسط وغرب أفريقيا أكبر تحد تواجهه فرنسا منذ الحقبة الاستعمارية، فتحرر المستعمرات واستقلالها يقطع شريان الحياة الذي تعتاش وتتغذى عليه الدولة الفرنسية، ويوقف عملية النهب لثروات الشعوب في 14 دولة أفريقية يهيمن عليها الفرنسيون بالقوة العسكرية.

أخيرا نجح الأفارقة في انتزاع الاستقلال السياسي وإسقاط الحكام التابعين لفرنسا في ثلاث دول هي: مالي، بوركينا فاسو، وأفريقيا الوسطى، وهناك تمهيد وتهيئة لحدوث عمليات تحرر أخرى حيث تشهد تشاد والنيجر وساحل العاج تحركات شعبية متواصلة للإطاحة بأعوان فرنسا.

تأتي حركة التمرد على فرنسا رغم التحشيد العسكري الفرنسي ومعاونة الناتو وجيوش أوربية مجاملة لفرنسا، بمزاعم محاربة الإرهاب في دول الساحل الأفريقي، وجاهر الحكام الجدد الذين جاؤوا بانقلابات عسكرية بكراهيتهم لفرنسا ورغبتهم في الخلاص من هيمنتها.

رغم أن الانقلابات العسكرية كانت لعبة فرنسية للإطاحة بالقادة الرافضين لاحتلالها ولتنصيب الحكام الموالين؛ فإن الانقلابات الأخيرة قادها ضباط وطنيون أطاحوا بالقادة المتفرنسين، وهم يحظون بالتأييد من الشعوب التي تساند بحماس عملية التحرر والاستقلال، وظهر ذلك في التظاهرات ضد القنصليات والمصالح الفرنسية.

الاستعمار الفرنسي هو الوحيد المتبقي من الحقبة الاستعمارية؛ فبريطانيا وغيرها من الدول الأوربية سحبت جيوشها من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأعطت مستعمراتها حق الاستقلال إلا فرنسا؛ التي مازالت تنشر جيشها في أفريقيا وتسيطر على الدول التابعة عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، من خلال اتفاقات وقيود تضمن السيطرة الدائمة عليها.

ثمة ملاحظة جديرة بالتأمل وهي أن الأغلبية الساحقة للشعوب في المستعمرات الأفريقية من المسلمين، بل كانت في غرب إفريقيا ممالك إسلامية وحضارية كبرى قبل السيطرة عليها بسبب التفوق العسكري الغربي، وقد فشلت حملات التنصير والفرنسة خلال قرنين من إغواء المسلمين وإخراجهم من دينهم، وبسبب طفرة المعلومات وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي قويت ثورة الشعوب ضد الظلم وزاد الوعي، وتراجع الجهل الذي كان يفرضه الفرنسيون لاستمرار بقائهم.

السيطرة الاستعمارية

شيدت فرنسا عشرات القواعد العسكرية ونشرت جيشها في كل الدول المحتلة (بنين، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، غينيا بيساو، مالي، النيجر، السنغال،  توغو، الكاميرون، الكونغو، الغابون، غينيا الاستوائية، أفريقيا الوسطى، وتشاد) ، وظلت منذ القرن التاسع عشر تربي طبقة تابعة، وتوظف الموالين لها في دوائر الحكم وقيادة الجيوش لتضمن الولاء.

استخدم الفرنسيون الاغتيالات والانقلابات والقوة ضد كل محاولات التحرر؛ فتم قتل الزعماء الذين فكروا في الاستقلال والتمرد على سلطتها مثل رئيس توغو سيلفانوس أوليمبيو (1960- 1963) الذي تم قتله عندما قرر الاستقلال وإصدار عملة نقدية جديدة بدلا من الفرنك الإفريقي الذي تصدره فرنسا للتداول في المستعمرات.

ومن أبرز الذين تم اغتيالهم لمواقفهم التحررية توماس سنكارا رئيس جمهورية بوركينا فاسو (1983: 1987) الذي قرر إنهاء التبعية لفرنسا، وكان يحظى بشعبية كبيرة، وكذلك تم التخلص من كثيرين من القادة الأفارقة بعشرات الانقلابات.

الفرنك الأفريقي

انفردت فرنسا بالسيطرة الاقتصادية على مستعمراتها فطبقت نظاما نقديا هو الوحيد في العالم، فالعملة المستخدمة في المستعمرات هي الفرنك الأفريقي  CFA سيفا، يطبع في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وألزمت فرنسا في الاتفاقات التي فرضتها إيداع 65% من الاحتياطي النقدي لكل دولة في البنك المركزي الفرنسي، وتم تخفيضها في عام 2005 بسبب الاحتجاجات إلى 50%، وفرنسا هي التي تحدد قيمة تبادل العملة مع اليورو، بالإضافة لقيود أخرى كثيرة تبقى هذه الدول في القبضة الفرنسية.

وعندما فكر الرئيس الليبي معمر القذافي في عام 2011 مساعدة المستعمرات الأفريقية للتخلص من العبودية النقدية؛ بإصدار الدينار الذهبي كعملة بديلة للفرنك الأفريقي تدخلت فرنسا واستغلت الثورة الليبية، وسبقت الناتو في ضرب جيش القذافي للقضاء عليه.

جاء في رسائل هيلاري كلينتون التي رفع عنها السرية أن القذافي خصص 143 طنا من الذهب ومثلها من الفضة لإصدار العملة الجديدة، وهذا كان السبب في قرار ساركوزي بضرب القذافي، والمفارقة أن القذافي دعم ساركوزي في حملته الانتخابية بالأموال ليستميله، لكن لا يعلم أن الدول الاستعمارية تحركها الأطماع ولاتعرف الصداقة مع قادة خاصة لو كانوا مسلمين، بل تم قتل الأشخاص الذي ارتبطوا بقضية الرشاوي للرئيس الفرنسي في اغتيالات غامضة!

روسيا وتركيا

الملفت في التحول الذي حدث في مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى هو تحالف القادة الجدد مع الروس لمساعدتهم في مواجهة فرنسا، وهم يحتاجون المساعدة العسكرية لعدم قدرة الحكام الجدد على مواجهة الفرنسيين بمفردهم، ولحاجتهم للفيتو الروسي في مجلس الأمن لمنع العقوبات التي يقف ورائها الفرنسيون.

الروس من جهتهم وجدوها فرصة ذهبية بدون أي تكلفة، للحلول بدلا من الفرنسيين في هذه المنطقة المليئة بالمواد الخام والثروات مثل اليورانيوم والذهب والنفط والحديد والنحاس، وهي تعطي روسيا بعدا جيوسياسيا لتطويق أوربا من الجنوب، في معركة استعادة الإمبراطورية الروسية ضد حلف الأطلسي ومعه فرنسا.

لكن من الملاحظ أن ردود فرنسا على التوسع الروسي في مستعمراتها الأفريقية دائما مصحوبا بالهجوم على تركيا رغم عدم وجود الأتراك بالمنطقة، ويظن الفرنسيون أن الوجود التركي في ليبيا خطر مستقبلي، في حالة استقراره سيكون هو البديل المفضل للتحالف العسكري من الدول الراغبة في التحرر ووضع نهاية لفرنسا في أفريقيا.

من المعلوم أن تركيا حققت طفرات في التصنيع العسكري وهي الأقرب للأفارقة لكونها دولة مسلمة، فإذا ساعدت الحكومات الجديدة بالسلاح المتطور ستجعلها قادرة على إدارة معركة الاستقلال بدون تهديد من الجيش الفرنسي، ولكن تركيا غير جاهزة في الوقت الحالي للقيام بالمهمة بسبب العوائق الجغرافية، ولهذا يلجأ الأفارقة إلى الروس الجاهزين والذين ثبتوا أقدامهم بالمشاركة مع الصين التي تتوغل اقتصاديا بدون صدام عسكري.

وبسبب المخاوف، فإن فرنسا تعمل ضد الأتراك بكل طاقتها لإخراجهم من ليبيا وإبعادهم عن أفريقيا، وحصارهم في البحر المتوسط، وتقوم بتحريض العرب والأوربيين والأمريكيين معها في معركتها، لكن التطورات العالمية وحرب الروس ضد الناتو في أوكرانيا قلبت الحسابات وغيرت الموازين، وكل الدول الكبرى الآن مشغولة بنفسها وفي مقدمتهم فرنسا.

***

لم يعد أمام فرنسا الكثير من الوقت، فعجلة التغيير تحركت ولم تعد الشعوب الأفريقية مستعدة للبقاء في العبودية والعذاب والمعاناة إلى الأبد، ولن تستطيع الطوابير التي ربتها فرنسا الصمود وتحمل الضغوط المتواصلة، سواء داخل الجيوش التي تتمرد لإنقاذ أوطانها، وفي الشوارع حيث تصر الشعوب على استرداد حريتها، ومطلبها الوحيد هو الخلاص من الاستعمار الفرنسي وأذياله.

المصدر : الجزيرة مباشر