نزاهة نوبل!

آني إرنو

سجّلت نوبل هذا العام احتفاءً بالسّيرة الذّاتية من خلال فوز بطلتها الفرنسية آني إرنو بالجائزة، وهي كاتبة أثارت جدلًا بكتاباتها قبل وصولها إلى نوبل، وجاءت الجائزة لتنقل ذلك الجدل من نطاقه الأوربي إلى العالمي.

وقفت آني في مواجهة صعبة مع منتقديها لكونها امرأة، ولأنّها من عائلة بسيطة مسحوقة. خرجت من القاع وحظيت بمنصب وظيفي رفعها من طبقتها، لكنّها كانت يسارية، سارت في المظاهرات ضدّ الغلاء، وسجّلت مواقف بجانب البسطاء والمهمشين من أبناء طبقتها.

أوهام نوبل العربية

في كلّ سنة تدور الأقاويل حول نوبل، لمن ستمنح؟ ويستعدّ العرب لنقد الجائزة ومانحيها وصاحب الجائزة.

البعض يفعل ذلك من دون أن يعرف شيئًا عن صاحبها وقبل أن يقرأ له حرفًا، والبعض يقرّر من خلال قراءته لمنشورات الآخرين ألاّ يقرأ!

وهذا ما حدث هذا العام أيضا، بدأت الأقاويل عن آني وتطوّع كثيرون للتقليل من أهمية ما تكتبه وتوصيفه بالسّيرة الذّاتية المحايدة.

للحكم على ما كتبته آني علينا أن نقرأ أولا كتبها باللغة الأصلية “الفرنسية” وليس عبر لغة وسيطة.

ثمّ نقرأ بعين القارئ الغربي، فقضاياه تختلف عن قضايانا وكذلك همومه ورؤيته وتفكيره.

إذا وضعنا نتاج الرّوائية في محيطه العام “البيئة واللغة والقارئ” ربّما نراه بشكلٍ أوضح ونستطيع استخلاص ما خفي من أفكار أو رؤى.

الأمر الثّاني الموقف الأخلاقي العام الذي اتّخذته آني من القضية الفلسطينية يجعلنا نتساءل عن مدى صحة “الوهم” العربي الذي كرّسناه خلال عقود عن دور إسرائيل في منح الجائزة وسيطرتها عليها. آني من أشدّ المؤيدين لحركة مقاطعة إسرائيل “كما جاء في جيروساليم بوست” بأنّها كانت من المؤيدين لسحب الاستثمارات من إسرائيل وفرض عقوبات عليها، وقد رفضت التعاون الثقافي بين فرنسا وإسرائيل عام 2018 بتوقيع رسالة ضمّت ثمانين فنانًا فرنسيًّا أعربوا عن غضبهم من ذلك التعاون.

القضايا الكبرى وفن الرواية

تعودنا “عربيًّا” أن يكون الهدف من الكتابة قضية “كبرى” وهذا سببٌ رئيس يجعلنا نستسخف بتلك الرّوايات العادية المحايدة على الرّغم من حفرها عميقًا داخل النّفس البشرية. لكن لنتوقف عند آني ونقرأ ما تقوله في مقدمة روايتها “المكان” متوجهة إلى القارئ العربي: “كانت الكتابة بلا حنين وبلا تواطؤ مع قارئ مثقف، كتابة تحمل مسافة متفقة مع موقعي كراوية بين عالمين هي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل “عادي” وانطلاقًا من هذا الاكتشاف المنتمي للتحليل الاجتماعي والجماليات معًا، أمكنني استكمال مشروعي”.

“وإذا كان ثمّة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة. ولمن يعيش ممزّقًا بين ثقافتين، ليست وظيفة الكتابة، أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنّما إعطاؤه معنًى وقيمة، وجعله في النّهاية لا يُنسى”.

ربّما لا يقتنع القارئ العربي -تحديدًا- بما تراه آني، فرواياتها تبتعد عن الحكاية، وعمّا نعرفه من فنون البناء الرّوائي “أحداثًا وسردًا ورؤيا وشخصيات”.

مستويات التّرجمة من خلال أربع روايات

قيمة القراءة من لغة وسيطة تحدّدها مقدرة المترجم وتمكّنه من اللغتين المنقول منها والمنقول إليها. لا يكفي أن يعرف المترجم اللغة الأجنبية كي يقوم بترجمة عمل ما، بل عليه أن يتقن أولًا لغته الأم.

قرأت أربع روايات لآني إرنو بعد فوزها بنوبل، لأقل بدقة إنّي قرأت لأربع روائيات يحملن اسم آني إرنو. لا شكّ أنّ ترجمة “إسكندر حبش” لرواية “احتلال” هي أفضلهنّ من حيث صياغة الجمل وقوتها وسلاستها.

أمّا رواية “المكان” فقد جرى تمصيرها إذ استخدم المترجمان اللهجة المصرية المحكية في الحوار وفي متن النّص. أمّا المترجمة السّورية لرواية “انظر إلى الضّوء يا حبيبي، فكانت ترجمتها مفككة ويبدو أنّ دار النّشر لم تدقق النّص لغويًّا كما هو المعتاد فحفلت الرّواية بالأخطاء التي تربك الحسّ السّليم لدى القارئ مع حرصها على استخدام ألفاظ لم تعد مستخدمة. وأيضًا لم يفصح النّص عن علاقته بالعنوان! وهي الرّواية التي لا يمكن أن ينسب فيها للكاتبة أيّ فتح أدبي أو تجديد. فقد سبقها إلى الفكرة “أميل زولا” في روايته “من أجل سعادة السّيدات” التي تدور أحداثها في عالم المخازن مع الفارق الكبير في التّناول، اهتمّ زولا بمشاكل الموظفين من حيث مدة العمل الطّويلة، مستوى الطّعام، سكن العاملات المكشوف، والصّراع من أجل تحسين الأحوال، بالإضافة إلى الاقتتال الدّاخلي. بينما تكتفي آني برصد ما تراه داخل المخزن كأنّها تسجّل بكاميرا محايدة تلك المشاهد التي يمكن اختصارها في فيديو قصير.

نوبل وكونديرا وأدونيس

عُرف عن كونديرا الكاتب التّشيكي الشّهير حبّه للعزلة ورفضه المقابلات الإعلامية. وفي كلّ عام ينتظر محبوه فوزه بجائزة نوبل. ينقل لنا الروائي العراقي علي بدر على صفحته الخاصة ما يظنّه سببًا مباشرًا لحرمانه من الجائزة وهو قصة تورط ميلان كونديرا في قضية اعتقال المعارض ميروسلاف دفوراسك في مارس 1950 حيث حُكم عليه بالإعدام، ثمّ خُفِّف الحكم لاثنين وعشرين عامًا، وقد توفي سنة 2000 وكلّ ظنّه أنّ خطيبته هي من وشت به، لكنّ المؤرخ والباحث الأكاديمي آدم هراديليك وبمحض الصّدفة حصل على ضبط الشّرطة الذي يؤكد الحادثة. ولا يزال كونديرا ينكر ذلك.

أما عربيًّا ففي كلّ عام ينتظر السّوريون الأحرار إعلان اسم الفائز ليسخروا من عدم فوز أدونيس بها ولينشروا الصّور الكاريكاتورية له ويتندروا عليه. بالمقابل السّوريون المؤيدون ومحبو أدونيس يشعرون بالخيبة والقهر.  فهل لعبت مواقفه السّياسية وذبذبة المواقف الأيديولوجية دورًا في حرمانه من الجائزة؟ أم أنّ انتحالاته التي وثّقها الشّاعر والنّاقد كاظم جهاد والنّاقد الليبي خليفة التليسي لعبت دورًا في هذا الحرمان؟

المهم أنّ فوز آني إثبات آخر لنزاهة الجائزة!

المصدر : الجزيرة مباشر