المنفيون يحلمون بوطن حر.. والحرية أغلى من الحياة!

متحف فرويد حيث عاش المحلل النفسي مع عائلته خلال العام الأخير من حياته في لندن، وكان قد غادر النمسا هربًا من الاضطهاد النازي في عام 1938 وتوفي في 23 سبتمبر 1939

 

يزداد جمال الوطن في قلوب تشتاق إلى العودة، وعندما تبتعد الأرض عن البصر تراه البصيرة أكثر بهاء، ويزداد الحلم سطوعا وتوهجا.

لم يدرك الذي أرغمنا على الهجرة أننا نستطيع أن نحوّل حبنا للوطن إلى كفاح من أجل الحرية، نعم حرية الوطن، فلا معني للحياة من دون حرية.

وعندما تنضج آمالنا يتوهج الحب، ويتحول الشوق إلى معنى للحياة.

ما زلنا نحمل المفتاح

رغم مرور السنين فلا يزال كل مهاجر يحمل مفتاح داره، ويشم على البعد شذا شجرة الليمون أمام بابها، ويذكر قصة أول حب، وأول منزل.

ومفتاح الدار أغلى على النفس من كل الثروات، وهذا المفتاح قد يعلوه الصدأ فيجلوه بالدموع، ليتحول هذا المفتاح إلى قصة حب تحمل أنفاس الأحباب، وعطر الأم التي حملته يوما في صدرها، أو علّقته بخيط في رقبتها.

يقول حسني غراب (وهو شاعر سوري من حمص هاجر إلى أمريكا):

دارٌ نحِنُّ إليها كلما ذُكِرتْ ….. كأنّما هيَ مِن أكبادِنا قِطَعُ

وملعبٌ للصبا نأسي لفرقتِهِ ….. كأنّه من سوادِ العينِ مُنتزَعُ

الرؤية ترتبط بالتاريخ

فالوطن ليس قطعة أرض، لكنه قطعة من الكبد، فمنه نرى العالم، وتتشكل فيه رؤيتنا للحياة. وتزداد قيمة الوطن كلما كانت الرؤية أكثر وضوحا، والرؤية من أهم عناصر القيادة، فلكي تكون قائدا يجب أن تشكل رؤيتك التي تشمل المبادئ والقيم والأهداف.

والرؤية ترتبط بالتاريخ ليتم بناء المستقبل على أساسها، ولكي تتحقق فإنها تحتاج إلى تجربة كفاح، فالذين يقوم المستبد الظالم بنفيهم، وإجبارهم على الهجرة من الوطن، هم أصحاب الرؤية والرسالة والأهداف العظيمة الذين يمكن أن يقودوا شعوبهم في رحلة كفاح من أجل الحرية.

علاقة الوطن بالحرية

في ضوء ذلك، فإن هناك علاقة بين الوطن والحرية، فلكي تكون حرّا لا بد أن تكافح لتحرير الوطن (الأرض والإنسان) من الطغيان.

والأحرار هم الذين يقودون الكفاح من أجل الحرية، لذلك يسجنهم الطغاة ويطردونهم من وطنهم.

من دراسة التاريخ يمكن أن نكتشف أن قصة النفي ترتبط في أوطاننا بقصة كفاح شعوبنا ضد الاستعمار، لذلك يزداد شوقنا للوطن كلما اشتدت حاجته إلى كفاحنا من أجل تحريره، وإنقاذه من الاستعمار والاستبداد، فهو يحن لنا ولقصص كفاحنا وإبداع عقولنا وأقلامنا، كما نشتاق له.

إن الوطن يحبنا كما نحبه، فنحن نستطيع أن نحوّل الحب إلى قصة تعبّر عن معاني العزة والمجد والكفاح من أجل الحرية والتحرير.

نفيض جداول من سنا

ما أجمل ذلك المعنى الذي عبّر عنه إيليا أبو ماضي بقوله:

وطنَ النجومِ أنا هنا ….. حدِّقْ أتذكرُ مَن أنا؟

أنا ذلك الولدُ الذي ….. دنياه كانت ها هنا

أنا من مياهِكَ قطرةٌ ….. فاضتْ جداولَ من سنا

وآلاف المبدعين الذين أجبرهم الطغاة على الهجرة من أوطانهم سيتحولون إلى جداول من سنا تغمر العالم بضوئها، ونور أفكارها وإبداعها، وجمال قصصها.

الآلاف من الذين طُردوا من أوطانهم ظلما يحملون علما ينفع الناس، ويمكن أن يحوّلوا قصصهم إلي أدب وشعر يعبّر عن أشواق الإنسان إلى العدل والحرية، ورفضه للظلم والطغيان والاحتلال.

جزء من قصة الوطن

لذلك ستتحول قصة كل مهاجر إلى جزء من قصة وطن من حقه أن يعيش حرّا، وقصة شعب يكافح لينتزع حريته.

فالمهاجر يمتلك القدرة على رواية قصة شعبه للآخرين، والقصة يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة لوطن يمتلك حلما، وما زال الإنسان فيه يتطلع إلى غد أفضل يعيش فيه حرّا.

نار تحرق الظلم

ووطننا لم يعد فيه إمكانيات لانتشار الأدب، لأن الطغاة أغلقوا المجال العام، وطاردوا كل من يعبّر عن الشوق إلى الحرية.

أما في المنافي، فإننا يمكن أن نجد فرصة لنقول -بوضوح- كلمة حق في وجه كل سلاطين الجور وحكام السوء، فتتحول كلماتنا إلى نار تحرق الظلم، وتشكل أساسا لعالم جديد يصبح فيه الوطن مضيئا.

وكلماتنا ستصل إلى الوطن، وسيغنّيها شعبنا عندما ينتفض قريبا في وجه الطغاة الظالمين، وستضيء كلماتنا لشعوبنا طريق الحرية.

حياتنا لها قيمة

لذلك ستكون لحياتنا قيمة، وقصص معاناتنا في الهجرة يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة لدولنا وشعوبنا، فكلماتنا دليل وبرهان على أن شعوبنا قادرة على تحدي الطغاة والكفاح ضد الاحتلال والاستعمار.

ونحن سنعود يوما نحمل تجربتنا التي يمكن أن تتحول إلى أفكار جديدة، وإبداع إنساني حضاري.

لذلك فإن حياة المهاجر لها قيمة، ويمكن أن تتحول إلى جداول من سنا، وفقا لتعبير “إيليا أبو ماضي”.

لكنه الحرمان وما أشد قسوته!

النفي من الوطن يحمل كل أشكال التعذيب والمعاناة، فما أشد مرارة الحرمان من الوطن، وقد عبّر عن ذلك جورج صيدح (شاعر سوري هاجر إلي الأرجنتين) بقوله:

عهد الشباب وعهد الشام إن مضيا.. فكلما أعطت الأيام حرمان

ففي المهجر يمكن أن يعيش الإنسان حياة طيبة، ويحصل على قدر من النجاح، وربما يتمكن من الحصول على مال يعيش به حياة أقرب إلى الترف، لكنه مع ذلك يشعر بالحرمان، ويشتاق إلى أن ينام في ظل “عريشة” في وطنه، كما قال الشاعر السوري زكي قنصل الذي هاجر أيضا إلى الأرجنتين.

علم الله كم صبونا إليها.. واشتهينا تحت العريشة غفوة

و”العريشة” بناء بسيط من الخشب وسعف النخيل، لكنها في نظر ذلك الشاعر أجمل من الأرجنتين بكل ما فيها من مباهج الحياة، لذلك يشتاق إلى غفوة فيها.

في بلاد الشام

وهناك مثل يردده الناس في بلادي، هو “كل بلاد عند أهلها شام”، فماذا يعني ذلك؟!

إن الشام في خيال أهل بلادي هي أجمل بلاد الله، وأطيبها هواء وحياة، ولكن مع ذلك فإن أهل كل بلد يعدّونها شاما، وللناس فيما يعشقون مذاهب، لذلك تختلف أذواقهم.

في ثراها دمع ودم!

فهذا أحمد زكي أبو شادي -الشاعر الرومانسي الذي شارك في تأسيس مدرسة أبولو الشعرية، وقد هاجر إلى أمريكا بعد أن ضاق بالفساد في مصر- يقول:

بكى الربيعُ طروبًا في مباهجِهِ ….. وقد بكيتُ أنا حبّي وأوطاني

أنا الغريبُ وروحي شاركتْ وطني ….. هذا العذابَ بأشواقي وأحزاني

لي في ثرى مصرَ دمعٌ نائحٌ ودمٌ ….. أذيبُ من مهجتي اللهفى ونيراني

تركتُه مثلَ غرسِ الحبِّ ما ذبلتْ ….. أزهارُهُ وأغاثتْ روحَ لهفانِ

أشمُّها في اغترابي حينَ تلذعني ….. ذكرى الشبابِ وذكرى عمريَ الفاني

الوطن يشتاق إلينا

مع كثرة المعاني التي عبّر عنها الشعراء الذين هاجروا من أوطانهم جبرا أو اختيارا، يظل هناك كثير من المعاني لم يكتشفوها، لكننا اليوم نستطيع أن نشعر بها تتدفق من وجداننا، ونحن نتابع أحزان الأوطان وأوجاع أهلها.

إن الأوطان تشتاق إلينا، وتتطلع إلى عودتنا، فمن يشحذ البصيرة يمكن أن يرى في عيون الأوطان دموعا، ومن يرهف السمع يمكن أن يسمع نداءها جميلا كأغاني الرعاة عند العودة في المساء.

البلاد نادت أهلها

سألت يوما زميلا كريما سبقني في اتخاذ قرار العودة إلى الوطن -رغم ما كنا ننعم به من راحة ورفاهية وعمل كريم- عن سبب استقالته، فأجاب “البلاد نادت أهلها”.

لم أنتبه يومها إلى جمال المعني، لكنني أدركه اليوم وأفهمه وأشم طيبه، وأعتز بصداقة صاحبه.

بعد عام واحد على رحيله، اتخذت أنا أيضا قراري بالعودة، وأقسمت أن لا أخرج من هذا الوطن إلا لمؤتمر علمي، أو دورة تدريبية.

ونحن سنلبي النداء

الآن نحن نسمع النداء واضحا، وسنلبي قريبا ذلك النداء العذب، وحتى يأتي ذلك اليوم سندافع بكل قوة عن حرية الوطن وحق كل إنسان في حياة كريمة، ولقمة خبز شريفة، وفي أن يعيش في داره عزيزا.

والبلاد تنادينا لأنها تذكر بفخر أننا ضحينا من أجلها، وما زلنا نكافح لتحريرها وتحقيق استقلالها الشامل.

وسر مأساتنا أننا كنا نحلم بإنتاج قمح من أرضنا يكفي حاجة شعبنا، وبتصنيع سلاح ندافع به عن وطننا، ونعرف أسرار هذا السلاح وكيفية استخدامه.

لذلك تنادينا بلادنا وسنجيب، ونعود أعزة كراما، فإننا نرى العواصف تتحرك في اتجاهات مختلفة.

وبلادنا أحق بعلمنا ورؤيتنا وأفكارنا وكفاحنا، والذين أخرجونا ومنعونا من العودة هم من ظلموا بلادنا وقهروا شعبنا.

والطغاة حطموا آمال شعبنا حين طردوا قادته وعلماءه، ونحن نحلم بالعودة لا لنغفو تحت ظل “عريشة”، ولكن لنقود شعبنا لتحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلال الشامل والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لذلك تنادينا بلادنا، وتشتاق إلينا أوطاننا، ويحلم شعبنا بعودتنا، وسنعود قريبا إن شاء الله.

المصدر : الجزيرة مباشر