تحولات الصين.. من عدو إلى صديق لانقلابات العسكر!

أثناء خروج بيان من الأمم المتحدة على لسان مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، ليدين المذابح والمحارق الخطيرة التي يرتكبها قادة الانقلاب العسكري في ميانمار بحق المواطنين العزل، كان المسؤولون الصينيون يتجهون بموكب عسكري إلى أحد موانئ ميانمار على خليج البنغال، للاحتفال يوم 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بنقلهم أول غواصة من طراز (035) إلى البلاد.

حرص الصينيون على المشاركة بعطيتهم في الاحتفال بمرور 74 عاما على تأسيس بحرية ميانمار، الذي حضره زعيم انقلاب أول فبراير/شباط 2021 الجنرال مين أونغ هلاينغ، بينما كانت الولايات المتحدة -على الجانب الآخر من الكرة الأرضية- تطلق بيانا تعلن فيه أن القوات البورمية احتجزت 11 قرويا بينهم أطفال وأحرقتهم أحياءً في منطقة “ساغاينغ” ذات العرقية البورمية. وصف البيان المحرقة، التي تكررت على مدار عام من الانقلاب في كثير من المناطق، بأنها “هدية وحشية من الجيش في يوم عيد الميلاد”.

طبيعة الصفقة

غير معلوم طبيعة الصفقة العسكرية التي نُقلت على أساسها الغواصة إلى ميانمار، لكن الأنباء التي وردت من هناك تبيّن أن الصين أصبحت من أهم مورّدي الأسلحة إلى المجلس العسكري الحاكم (تاتماداو)، حيث أمدته بالعديد من الزوارق ودوريات السفن البحرية والنهرية وصواريخ مضادة للسفن والمدفعية بأنواعها وطائرات النقل الجوي والمقاتلة التي تعمل من دون طيار، وتقدّم ضمانات إلى روسيا من أجل مواصلة الدعم العسكري لقادة الانقلاب. لطالما يرى الخبراء تعاون الصين مع ميانمار من الأمور المهمة، حيث بدأت تتدخل في إدارة شؤون جيرانها، ليكون لها نفوذ في دول الجوار، بما يمكّنها من مواجهة الولايات المتحدة، التي حولت الصين من الصديق الشريك إلى ” العدو المحتمل”، وجعلت من منطقة جنوب وشرق آسيا ساحة لحرب باردة جديدة لسنوات قادمة.

رغم أن الصين أصبحت أكبر محرك للاقتصاد الدولي وأكبر منتج وأكبر سوق جاذب للاستثمار الأجنبي، فإن علاقاتها مع ميانمار توقفت عند التعاون الاقتصادي، مع نمو رأسمالية جديدة بها ازدهرت بداية القرن الحالي، وارتبطت بالتطور الاقتصادي في الصين الذي دعمته رئيسة الوزراء المستشارة أونغ سان سو تشي، ورفعته إلى مرتبة الشراكة الاستراتيجية بدخولها في مشروع الصين (الحزام والطريق).

استهدف المشروع من وجهة نظر الزعيمة توفير مشروعات كبرى لتشغيل الشباب وتوسيع البحث عن الغاز والبترول في سواحل ميانمار الغربية، بما يرفع شعبيتها لدى الناخبين، ويُضعف قبضة الجيش على ميزانية الدولة التي سيطر عليها طوال عقود عبر شركاته التي احتكرت أعمال التجارة والتعدين وتجارة الأراضي وبناء العاصمة الجديدة (يانغون). وبينما تسعى الصين إلى شق خط حديدي يربط بين مدنها الصناعية الكبرى في الجنوب الغربي، ليصلها بالمحيط الهندي من دون المرور على مضيق ملقا، الذي تراقبه القوات الأمريكية ويتحكم في 80% من حركة التجارة العابرة من جنوب وشرق آسيا إلى أوربا والولايات المتحدة، فإنها تحاول السيطرة على فرص الاستثمار في آبار الغاز بخليج البنغال، لضمان ألا يكون لها شريك في هذه المصادر، وخاصة عدوتها اللدود الهند.

زعزعة الاستقرار في ميانمار

كان طبيعيا أن تمنح الصين بنغلاديش المجاورة لميانمار غواصة من الطراز ذاته، وأخرى أحدث إلى تايلاند من طراز (S26T) لضمان سيطرتها على المياه التي تُسابق عليها الولايات المتحدة والهند، وفي الوقت نفسه تراقب الممر البحري أمام المسلمين الروهينغيا الهاربين من حملات التطهير العرقي، وملاذ حركات التمرد المسلح التي تشكلت مؤخرا لمواجهة المجازر التي يرتكبها الجيش في شمالي وغربي وجنوبي البلاد، أثناء الهروب بحرا إلى تايلاند وبنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا. مع ذلك ظلت العلاقة التاريخية بين الصين وعسكر ميانمار تحمل ذكريات مريرة. فمنذ استقلال ميانمار عام 1948 عن بريطانيا، حاول الحزب الشيوعي الصيني استقطاب قادة ميانمار إلى تحالف الشيوعيين بالمنطقة، بينما هم ومن بينهم الجنرال أونغ سان والد الزعيمة أونغ سان سو تشي والقوى السياسية من أصحاب التوجهات الديمقراطية، فبعضهم تعلّم في اليابان التي كانت تحتلهم حتى عام 1944، أو بريطانيا من ذوي توجهات اشتراكية وفقا للمفهوم الغربي.

عملت الصين على زعزعة الاستقرار في ميانمار كراهية في جيش عدّته حاميا للقيم البرجوازية والدينية المناقضة لفكر زعيمها (ماو تسي تونغ) الذي “يحرر الفقراء بجيش من العمال والفلاحين”. عملت الصين على تدريب وتسليح مجموعات محلية في أراكان ومناطق حدودية كثيرة، في محاولة لتصدير الأفكار الثورية الشيوعية إلى بيئة محافظة تتكون من 134 عرقية مختلفة، وملاحقة المتدينين البوذيين داخل أراضيها مِن الذين فروا من التبت، بما دفع الجيش الذي يرى نفسه الوصي على الدولة وحامي العرقية البورمية البوذية، إلى حالة قتال بلا توقف منذ الحرب العالمية الثانية، بدأت بطرد اليابانيين والإنجليز وامتدت إلى مكافحة الشيوعيين ثم المعارضين بعد الاستقلال.

تسببت العصابات المدعومة من الصين والصراعات العرقية الداخلية في رفع معدلات الفقر، ودفعت الجيش إلى تبني أفكار اشتراكية للحد من نمو تيار المعارضة الشيوعي في البلاد، وأدخل ميانمار في حكم عسكري منذ عام 1962، عزل فيه الدولة عن العالم، واستمر حتى عام 1988، حينما سلّم الجنرال المستبد (ثان شوي) السلطة إلى جيل من شباب العسكر. استهدف الجنرال العجوز “ضمان تقاعد آمن ومريح، وتسليم آمن للسلطة لحزب الجنرالات الذي أسسه الجيش (حزب الاتحاد للتضامن والتنمية). لكن حدثت مفاجأة، إذ خرج الجنرالات الإصلاحيون عن نصوصهم وأطلقوا سراح السجناء وأنهوا الرقابة على الإعلام، بجانب تحرير أونغ سان سو تشي من الإقامة الجبرية، وإدخال مستوى من الحريات غابت عن البلاد نحو نصف قرن”، كما تذكر دراسة بحثية لمجلة فورين أفيرز الأمريكية.

حامي القومية البوذية

اختار المجلس العسكري ضابطا صغيرا -أصبح الجنرال مين أونغ هيلا يانغ- لضمان حماية إمبراطورية الجيش بعد أن أدت إصلاحات عام 2011 إلى تقليص امتيازاته في الوصول إلى العملات الأجنبية واحتكار الشركات، ونشوب طبقة جديدة من رجال الأعمال على علاقات قوية بالزعيمة سان سو تشي والرأسمالية الاقتصادية في الصين. وانتشرت عصابات صينية ومحلية تنافس الجيش في تجارة “اليشم” وهو أنواع فاخرة من الأحجار الكريمة، وتهريب الأخشاب ثم المواد المخدرة، وشبكات غسيل الأموال، وأخرى متطرفة مولت حروبا دينية وعرقية، بدأت بالتهجير القسري لنحو 700 ألف من المسلمين الروهينغيا في اقليم أراكان، ومعها تحوّل الجيش حامي القومية البوذية إلى أداة فاعلة في ارتكاب جرائمها.

رغم مشاركة أونغ سان سو تشي المجلس العسكري في احترام القيم المحافظة والمؤسسة الدينية وانضباطها الذاتي، بصفتها ابنة جنرال من مؤسسي (التاتماداو)، انتاب القلق مين أونغ مع تقارب الزعيمة مع الصين التي منحتها مشروعات بمليارات الدولارات من خلال مبادرة (الحزام والطريق)، لبناء الممر البري الذي يربط الصين بالمحيط الهندي وميناء وآبار الغاز، ولجوء رجال الأعمال إليها، في وقت أدرج فيه الغرب قيادات الجيش على قوائم الحظر الدولي بجانب ملاحقتهم بالإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للمسلمين الروهينغيا. “شعر الجنرال مين أونغ بالقلق أن تلقي الزعيمة به وبمجلسه العسكري فوق الدستوري يوما ما تحت الحافلة” لتهدئة داعميها السابقين من الغرب، رغم دفاعها عنهم في محكمة لاهاي، وخسارتها كثيرا من الدعم الدولي الذي ساعدها في الوصول إلى السلطة. وزادت مخاوف العسكر بعد أن نجحت أونغ سان سو تشي مطلع 2021 في الانتخابات بأغلبية ساحقة، رغم الحالة الاقتصادية المزرية، لثقة الشعب في زعيمتهم ووعدها لهم بالمزيد من المشروعات مع الصين التي يمكن أن تجلب لهم الثروة.

تحولت أصوات الشعب من مصدر قوة للزعيمة إلى مصدر خوف للعسكر، الذين شعروا بالإهانة مع تمسك الشعب بها ووقوف القضاء معها، فقاموا بانقلاب أول فبراير الذي انتفض الشعب لإنهائه عبر العصيان المدني، ورفضه العالم، بينما وقفت الصين -كعادتها- تمسك العصا من المنتصف. عزز الجيش حكمه، حيث يدير دولة داخل الدولة، وقوات وجنودا معزولين تماما عن الشعب في مدن خاصة، مع عودته إلى التصرف في 25 مليار دولار، تمثل ميزانية الدولة. شكّل قوة منيعة في مواجهة الضغوط الخارجية، أسوة بما فعل في ستينيات وتسعينيات القرن الماضي. وبينما يضغط الغرب على الجيش دفعت العقوبات (تاتماداو) في اتجاه الصين.

بيئة الرعب

أنهى الجيش تجربة ديمقراطية استمرت 10 سنوات من الحكم المدني الدستوري، وأصبحت استراتيجيته “خلق بيئة من الرعب”، يستخدم القتل وحرق الجثث للترويع و”يطلق مدفعيته على الناس لأنهم فقط يريدون الديمقراطية”. تؤكد وكالة أسوشيتد برس للأنباء -في تقرير ميداني مصور نشرته الأسبوع الماضي- مقتل 1375 شخصا واعتقال نحو 11 ألفا و200 مواطن، في هجوم وحشي على المعارضين بأنحاء البلاد. أيقنت الصين أن العسكر غير قادرين على تحقيق الاستقرار، وتخشى أن تتحول ميانمار إلى دولة على حدودها، تصدّر إليها الحركات الثورية، فهرولت إلى دعم النظام العسكري. فالصين تعمل على كسب النفوذ في كل أنحاء العالم، وتحوّل ثقلها الاقتصادي إلى سياسي ثم عسكري.  فالصين تقمع بلا رحمة معارضيها في الداخل، بداية من هونغ كونغ والتبت وشينجيانغ (تركستان الشرقية)، وتحارب الديمقراطية في كل مكان، ولا تهتم بنقد الآخر وخاصة القادم من الغرب، لذلك تدفع بالأنظمة الاستبدادية هنا وهناك، لاستعراض قوتها وسد نقاط ضعفها، وإن وضعت ميانمار وغيرها في “نقطة اللاعودة”!

المصدر : الجزيرة مباشر