انقلاب تونس يهدم حصن القضاء

في الذكرى التاسعة للتصديق على الدستور التونسي بتاريخ السابع والعشرين من يناير 2014 نتحدث عن الدستور كذكرى عشق انقضى.

لم يترك لنا الرئيس سببا للتفاؤل بعودة النص الذي حظي بإجماع التونسيين، وبُذلت فيه ثلاث سنوات من النقاش المحتدم. لكن في هذا المشهد الحزين يصير اتهام الرئيس وحده بالاعتداء على الدستور نوعا من تحريف الحقيقة.

قوى كثيرة تخشى عودة الدستور وتهمس في مجالسها الخاصة بأن دستور 2014 هو دستور (الخوانجية) وعودته تعني عودتهم وهذه من محرماتهم السياسية.

ونقرأ هذا كعلامة مفزعة على نفور تونسيين كثر من الديمقراطية التي أقرها الدستور، وفي هذه الأجواء يثبّت الانقلاب أركانه حاملا التونسيين إلى المسغبة.

من يرفض الدستور؟ ولماذا؟ وماذا يريد بديلا عنه؟ وجب أن نجد إجابات عن هذه الأسئلة ومثلها لننظر إلى المستقبل، إن كان هناك مستقبل لتونس بعد الانقلاب.

الرئيس يتحرش بالقضاة والنقابة تمتهن القضاء

أعلن الرئيس الحرب على القضاء بإجراءات خارج القانون طبعا، فأوقف صرف مِنح أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وهي خطوة في طريق حل المجلس الذي عدّه القضاة أحد مكاسب الثورة، فهو علامة على نجاتهم من تعليمات السلطة.

وأخبار كثيرة تروج الآن أنه يستعد لإحالة أكثر من 300 قاض (من درجات مختلفة) إلى التقاعد الوجوبي.

سبب هذه المعركة أن القضاة رفضوا التعليمات في قضايا سياسية، آخرها قضية القيادي النهضوي نور الدين البحيري الذي لا يزال يخوض “إضراب جوع” بمشفى عام حُمل إليه قسرا وخارج القانون. وهذه الإقالات مكيدة لخلق معركة مع المحامين الرافضين في الغالب لالتحاق القاضي المتقاعد بصف المحاماة. اشتباك مهني يجني ثمرته المنقلب، فالمحاماة والقضاء يمسكان بخناقه، وهما أكبر قوتين عبّرتا بوضوح عن رفض الانقلاب وإجراءاته.

لكن في جانب آخر، تتجه النقابة إلى عقد مؤتمرها خارج القانون مستهينة بالقضاء وأحكامه، فقد عقدت النقابة مؤتمرا انتخابيا خارقا للعادة (صيف 2021) عدّلت فيه قانونها الداخلي بما سمح للقيادة القديمة بالاستمرار في مواقعها، وتظلّم نقابيون لدى القضاء فحكم لهم بعدم قانونية المؤتمر ومقرراته. لكن النقابة تستهين بهذا الحكم الابتدائي وتعلن أن لا قانون يعلو فوق لوائحها الداخلية، وهي تستعد الآن للمؤتمر الذي سيؤبد قيادتها ويتجاوز أحكام القضاء.

فئات كثيرة من النخب تتابع ما يجري في القضاء (من الرئيس والنقابة) وتصمت، ولا نظن ذلك من خوف، ولكن من طمع في أن تستمر المعركة حتى تصبح الساحة السياسية جاهزة لمعركة استئصالية عبر قضاء التعليمات على طريقة “بن علي” حين كانت الأحكام ترد إلى القاضي في قرطاس من قصر قرطاج.

لماذا لا تقدّر النخب قيمة القضاء المستقل في بناء الدول الحرة والقوية؟ هنا نعثر على مفاتيح فهم ما يجري في تونس قبل الانقلاب وبعده.

قضاء مستقل قد يحمي الإسلاميين

في (قد) الاحتمالية تلك يوجد مفتاح الفهم. فمنذ ظهر الإسلاميون في تونس استعملت الدولة ضدهم مؤسسة القضاء، وألّفت الملفات الإجرامية، وأمرت القضاة بالحكم، ووجدت من استجاب لها، وأحيانا بحماس فياض. وكانت تلك أنجع وسيلة تقضي على خصم سياسي دون أن تجعل الحكومات تتورط في جريمة تصفيات سياسية على طريقة الأنظمة المشرقية خاصة أنظمة البعث. خمسون سنة من المحاكمات جعلت الإسلاميين خارج كل الدولة، فلما صار القضاء المستقل احتمالا كبيرا فهم ذلك خطرا على كل الذين استفادوا من غياب الإسلاميين وخافوا من عودتهم.

استقلال القضاء يعني أنه لم يعد لمنظومات الحكم وسيلة لتصفية خصوم سياسيين دون دم. فإما مواجهة مباشرة معهم في الشارع وإما التسليم بوجودهم ومشاركتهم. يستوي في هذا الرئيس المنقلب ويسار النقابات والنخب المستكينة إلى منافع الدولة والغيورة على مواقعها أن يقاسمها إياها إسلاميون قادمون في الأغلب الأعم من الأرياف المفقرة (هناك بعد طبقي/جهوي خفي في الصراع).

التضحية باستقلال القضاء هي في الجوهر معركة ضد الإسلاميين القادمين من بعيد لأخذ حق من الدولة وضد كل من قد يخطر له أن يناصرهم ضمن تحالفات ديمقراطية. وهذه بديهية، حتى إن المنقلب الفاقد لكل أشكال الذكاء الإنساني فهمها ويستفيد منها. لقد منعه القضاء حتى الآن من خوض معركة تصفية خصمه اللدود (رئيس البرلمان). ولذلك يفتح النار على القضاة، وفعله من جنس فعل نقابة اليسار الاستئصالي.

القضاء المستقل شرط للديمقراطية، وهنا وقع كل أعداء الديمقراطية، إذ لم تكن الديمقراطية المؤسسة على دستور 2014 مطلبهم. لقد كان الدستور الذي أسهم الإسلاميون في صياغته والتصديق عليه بوابة مروا منها إلى المشاركة ومضايقة (ملاك الدولة التاريخيين) مكاسبهم.

التفصيل الطريف في مشهد تدمير القضاء أن الرئيس المنقلب أقرب اجتماعيا إلى الإسلاميين، فهو قادم من الأقاليم (الأطراف)، وليس أرستقراطيا ليندس ضمن الطبقات المستفيدة (وقد حظي بكل أشكال الاحتقار حين كان يزامل رموز هذه الأرستقراطية في الجامعة). لكنه من غباء غريزي -هو كل رصيده- يخوض معركة أعدائه، فيقدّم لهم القضاء على طبق، ولا شيء يمنعنا من التوقع أنه سيكون هو أول ضحايا قضاء التعليمات، ولدينا وقت كافٍ لانتظار رؤيته مغلول اليدين باسم الاعتداء على الدستور الذي لن يعود، وهذه ليست رواية خيالية.

آخر الحصون

القضاء آخر حصون الحرية والديمقراطية (دون أن يعني هذا أن كل القضاة على قلب رجل واحد) ولكن مِنْعَة ضد التعليمات بُنيت بصبر وأناة، يراد لها أن تُهدم لينفذ كل خائف من الديمقراطية شهواته في تدمير خصومه بقوة البوليس المختص في تركيب الملفات (مثل محاولة إسقاط طائرة الرئيس بن علي ببندقة صيد تبيّن لاحقا أنها خشبية) لكن المتهم عوقب بالسجن المؤبد.

لحظة حرجة بتاريخ الديمقراطية في تونس ستؤدي حتما إلى عودة دولة البوليس والقضاء الفاسد. لقد بدا معارضو الانقلاب الجادين حتى الآن مهمومين بعودة البرلمان والدستور وما ألغِي من الهيئات الدستورية، لكن الاعتداء على القضاء سيُجبرهم على تغيير أولوياتهم لتصبح حماية القضاء أولوية نضالية. وهو تغيير في المحاور والمجالات بمثابة هزيمة. ربما نفهم هنا سر طمأنينة المنقلب وهو يفتت المؤسسات بتؤدة ولا يظهر عليه الاستعجال. إنه يعرف -ولم يكن قصير الفهم- أن كثيرا من معارضيه في الظاهر يودون أن يكمل معركتهم ضد القضاء، وفي مقدمة هؤلاء النقابة التي تُعد لوائحها الداخلية أقوى من كل قوانين الدولة. القضاء الذي قد يحمي الإسلاميين وأنصارهم من الديمقراطيين يجب أن يزول، هذا مشروع الرئيس في الظاهر، لكنه -في حقيقته- مشروع أعداء الديمقراطية الذين سبّب لهم الدستور -محرّر القضاء- أمغاصًا مستديمة.

المصدر : الجزيرة مباشر