18 و19 يناير.. هل كانت انتفاضة حرامية؟

انتفاضة يناير 1977

وافق يوم الثلاثاء (25 يناير) ذكرى مرور 11 عاما على ثورة 25 يناير، التي خرج فيها الشعب المصري ثائرا على نظام الرئيس حسني مبارك. في البدء كان احتجاجا شبابيا على الممارسات القمعية للشرطة، وسرعان ما اتسع نطاق الاحتجاجات ليشمل عموم الشعب المصري كله رفضا لسياسات مبارك بالجملة، وغضبا منه ومن سياساته.

كان الشعار الرئيس المرفوع طوال 18 يوما لثورة 25 يناير النبيلة، هو “عيش- حرية- عدالة اجتماعية”، عاكسًا لمطالب إنسانية مشروعة ولازمة لكل البشر، وتعبيرًا عن معاناة الناس، بغض النظر عن النتائج التي لم تصل بالشعب إلى غايته المحمولة على هذا الشعار، سوى إسقاط مبارك.

“العيش” والترادف مع العدالة الاجتماعية

“العيش” في هذا الشعار لثورة 25 يناير، يعني الحياة الكريمة، ويترادف مع معنى “العدالة الاجتماعية”، من توفر لفرص العمل التي تكفل دخلا ملائما للفرد يغنيه عن الاحتياج والعوز في الطعام والملبس وغيره، مع ملاحظة أن “الخبز” يشغل حيزا كبيرا وأساسيا في العادات الغذائية لغالبية أهل مصر إلى حد أنهم يسمونه “عيش”، وكأنه المرادف للحياة نفسها وفي هذا المعنى نفسه، تفسير لتقدم العيش وتصدره لشعار الثورة.

معنى “العيش” يشمل بطبيعة الحال، إتاحة الخدمات الصحية والتعليمية للجميع، دون عناء، بغض النظر عن حالة الفرد الاقتصادية أو الاجتماعية، أو هكذا تنص شرائع حقوق الإنسان المتفق عليها دوليا في المواثيق الأممية.

قرارات 17 يناير 1977

الحدث الثاني، وهو موضوع هذا المقال، هو ذكرى مرور 45 عاما على أحداث 18 و19 يناير عام 1977، التي خرج فيها المصريون بكل فئاتهم غاضبين من قرارات الحكومة في اليوم السابق (17 يناير)، بزيادة أسعار بعض السلع الغذائية، وعلى رأسها “الخبز”، وهو ما أشعل نار الغضب.

فقد اندلعت المظاهرات الرافضة لغلاء الأسعار، وراحت تمتد وتتسع بسرعة فائقة خلال يومي 18 و19 يناير منددة بالغلاء، وسياسات الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها الرئيس الراحل أنور السادات (1918 – 1981م)، بعد انتصار المصريين على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.

 السادات والقفز العشوائي إلى الرأسمالية والانفتاح

“الانفتاح” الذي بشر به السادات وتبناه هو التوجه نحو الغرب، والانتقال إلى الرأسمالية والاقتصاد الحُرّ، وتخفيف قبضة الدولة على الشؤون الاقتصادية والإنتاجية.

كان هذا الانفتاح انقلابًا على “الاشتراكية” التي انتهجها سلفه جمال عبد الناصر (1918- 1970) منذ قيام ثورة يوليو 1952، حيث كان للدولة الدور الأكبر في إدارة الاقتصاد والهيمنة على عناصر الإنتاج وأدواته بـ”قصد” تحقيق العدالة الاجتماعية، وتذويب الفوارق بين الطبقات.

وقد أسفر القفز الفجائي من الاشتراكية ذات الميل طبيعي للوصاية والانغلاق، إلى الانفتاح بلا ضوابط ولا قيود، عن نشوء طبقات طفيلية جاء نموّها سريعًا وصادمًا ومستفزًّا للحال الذي كان سائدًا، في عموم البلاد.

رب العائلة وأخلاق القرية والثراء الفاحش

جاء مردود هذه السياسات متمثلا في الثراء الفاحش لفئة أو طبقة محدودة، دون أي عوائد تُذكر لهذا الانفتاح على العامة، وانتشرت بسرعة الصور المعبرة عن زيادة الفوارق في بداية ظهور تعددية أنواع التعليم، والخدمة الصحية الخاصة، ومظاهر كثيرة للبذخ. وبالجملة كان الانفتاح بداية لتدهور معيشي، طال الكثيرين، وراح يتسع حتى يومنا هذا بشكل غير مسبوق.

هذا الانفتاح جرى وصفه وإشهاره بأنه “سداح مداح”، والتوصيف للكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين (1927 – 1996م)، الذي شغل منصب رئيس تحرير صحيفة الأهرام القاهرية.

رافق تلك التغيرات التي أحدثها الانفتاح، إصرارُ السادات على التسلط وتأكيد النموذج الأبوي لنظام حكمه، بترديده الدائم لفكرة أنه رب العائلة وكبيرها، وغيرها على شاكلة أخلاق القرية وعيب وما إلى ذلك من مفردات كان يستعملها وكأنه عمدة من الزمن القديم يدير بلدة صغيرة في الريف.

تزامن هذا كله مع التضييق على اليساريين، وفتح الباب واسعا للجماعات الإسلامية، لتنشط في المدارس والجامعات والنقابات، ضمن مسعى السادات لضرب أنصار سلفه عبد الناصر.

تراكم الغضب والمهارات التنظيمية لليسار

كانت النتيجة هي تراكم الغضب لدى قطاعات واسعة من الجماهير، وعلى الأخص اليسار المصري شاملا الناصريين، نتيجة انقلاب السادات الحاد على السياسات الناصرية إجمالا، وضرب رموز تلك المرحلة واعتقال حكومتها فيما يعرف إعلاميا بقضية “مراكز القوى”، التي جرى فيها إصدار أحكام بالسجن لمدد طويلة على رجال عبد الناصر، الذين كانوا يديرون شؤون الدولة.

ثم جاء قرار الحكومة يوم 17 يناير 1977، في ظل هذه الأجواء بزيادة أسعار الخبز والزيت والسكر وغيرها، لتكون تلك الزيادة بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الغضب الكامن في النفوس، لتعزّزه المهاراتُ التنظيمية التي كان يتمتع بها اليسار المصري، والقدرة على تحريك الجماهير، وقيادتها، مدفوعًا بالحنق على السادات.

ثورة الخبز أم انتفاضة حرامية

وهكذا وقع الانفجار، واندلعت انتفاضة شعبية واسعة يومي 18 و19 يناير، لتعم البلاد بأركانها الأربعة، اشتهرت هذه الانتفاضة لاحقا باسم “ثورة الخبز”، إلى أن هدأت الأمور بتراجع السادات مبكرا عن قرارات رفع الأسعار وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الزيادات.

أحدثت هذه الانتفاضة أو “ثورة الخبز” جرحا نفسيا غائرا لدى “السادات” الذي كان قد تولى الحكم خلفا للرئيس جمال عبد الناصر المتوفى في 28 سبتمبر 1970، وراح يصفها على الدوام بأنها “انتفاضة حرامية”، وظل مُصرًّا على هذه التسمية، حتى نهاية حكمه باغتياله في 6 أكتوبر عام 1981.

واقع الحال أنها لم تكن انتفاضة حرامية، كما كان يحلو للسادات أن يطلق عليها، استنادا إلى وقوع أعمال شغب وتخريب في مناطق محدودة من القاهرة، ربما بفعل الفقر أو استغلالا من عناصر إجرامية لحالة الفوضى. كانت انتفاضة شعبية، دون أدنى شك، رافضة للمساس بلقمة العيش (الخبز)، وكان هذا واضحا بشدة في الهتافات التي رددها المتظاهرون ومنها:

“مش كفاية لبسنا الخيش .. جايين ياخدوا رغيف العيش”.

“يا حرامية الانفتاح.. الشعب جعان مش مرتاح”.

“بيشربو ويسكي وياكلو فراخ.. الشعب من الجوع أهو داخ”.

“هو بيلبس آخر موضة.. واحنا بنسكن عشرة في أوضه (غرفة)”.

السادات وهامش محدود للحرية

يبدو أن “السادات” من تلقاء نفسه، أو بتأثير نصيحة أمريكية، سعى إلى توسيع هامش الحرية، للحيلولة دون تكرار انفجار مثل هذا مرة أخرى، ومن ثم فإنه عَمد إلى عقد لقاءات مفتوحة ومذاعة على الهواء مباشرة، مع قيادات واتحادات طلاب الجامعات وأساتذتها، ومع العمال، والاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الذي كان قائما وتم حله لاحقا)، وأدار نقاشات حاول من خلالها تفكيك حالة الغضب.

كما سمح السادات بتحويل المنابر إلى أحزاب لتكون بديلا للاتحاد الاشتراكي، ووافق على إصدار صحف للمعارضة، حازت هامش حرية محدود إلى أن ضاق صدره بكتابات المعارضين، وكانوا قد زادوا بشكل كبير على خلفية قيامه بعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الإسرائيليين برعاية أمريكية، ليأمر باعتقال كل معارضيه يوم 3 سبتمبر 1981، ثم يُغتال يوم 6 أكتوبر 1981، وهو نفسه يوم احتفاله بنصر أكتوبر.

إن استرجاع ذكرى أحداث 18 و19 يناير، يستلزم بالضرورة من الحكومة المصرية استلهام دروس هذه الأحداث، ولا سيما أنها تفكر في رفع الدعم عن الخبز الذي يمثل محور غذاء الكثير من المصريين في ظل انتشار وزيادة مساحة الفقر في المجتمع المصري.

المصدر : الجزيرة مباشر