“ناظم حكمت” شاعر تركيا وأسطورة أدبها!

ناظم حكمت

تحتفل تركيا هذ العام بالذكرى المئة والعشرين لميلاد أعظم شعرائها في القرن العشرين، وهو الشاعر الذي ترك بصمة واضحة على الأدب التركي، ووضعه في  مصاف الآداب العالمية، إنه الأديب والروائي والشاعر الكبير ناظم حكمت.

ولد ناظم حكمت في الخامس عشر من يناير عام 1902 في مدينة سالونيك اليونانية، التي كانت واقعة آنذاك تحت حكم الدولة العثمانية، لعائلة ثرية ذات نفوذ قوي، وهو حفيد ناظم باشا عمدة حلب أحد أتباع مولانا جلال الدين الرومي وطريقته المعروفة باسم “المولوية”.

كتب أولى قصائده وهو طفل ليمجد بطولات القوات البحرية، مما دفع أسرته إلى إلحاقه بمدرسة البحرية في جزيرة هيبالي عام 1917، ليتخرج منها عام 1919، ويُعيَّن ضابطًا ضمن فريق المسؤولين على سطح السفينة الحميدية، إلا أنه أُصيب بالتهاب رئوي فاضطُرّ إلى ترك الخدمة في الجيش عام 1920، ليعمل مدرسًا في مدينة بولو القريبة من إسطنبول، ويشارك في مكافحة الاحتلال الإنجليزي لتركيا.

غادر ناظم حكمت تركيا عام 1921 متوجها إلى موسكو لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق، وعند عودته إلى تركيا أيّد بشدة حركة مصطفى كمال أتاتورك، لكنه سرعان ما تحول إلى معارضة النظام الذي أسسه، ليمضي بسبب ذلك 28 عاما من عمره إما سجينا أو منفيا.

فقد حكم عليه بالسجن مدة 15 عاما في أعقاب التحقيقات التي أجرتها السلطات عام 1925 أثناء اندلاع ثورة الشيخ سعيد الكردي في جنوب شرق تركيا، لتعاد محاكمته مرة أخرى ويحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة أشهر بتهمة الانتماء إلى منظمة سرية مما دفعه إلى الهرب من البلاد.

أشعاره الإنسانية قادته للسجن

وفي عام 1933 حُكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات، ثم أُفرج عنه ليبدأ مرحلة الكتابة الهزلية في صحيفة “أكشم” مستخدما اسما مستعارا، حيث سخر من ممارسات السلطة السياسية ورموزها، وما قامت به لتغيير هوية المجتمع التركي.

أُلقِيَ عليه القبضُ مرة أخرى سنة 1936 بتهمة تحريض الطلاب على معارضة السلطات، ووُضع في سجن أنقرة، بعد أن حُكم عليه بالحبس مدة 15 سنة، ثم قررت السلطات نقله إلى سجن إسطنبول لتُعاد محاكمته بتهم جديدة أمام محكمة عسكرية هذه المرة، ويُحكم عليه بالسجن مدة 20 سنة أخرى، وفي سنة 1940 نُقِل إلى سجن تشانكيري ومنه إلى سجن بورصة.

قضى حكمت في السجن 17 سنة عقابا له على أشعاره الإنسانية التي تمجد القيم الجمالية وتدعو إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، إذ رأت فيها السلطة الحاكمة محاولة لترويج الأيدولوجية الشيوعية، ودعوة صريحة للثورة على النظام.

ومن هذه الأقوال “إذا كنت تؤمن بالوطن.. بالعلم وبالإنسان، فسيقودون خطاك إلى المشنقة، أو سيلقون بك في غياهب الزنازين، ستبقى هناك عشر سنين أو ربع قرن، ولكن مهما يكن الأمر، عليك أن لا تفكر ولو للحظة أنهم لو علقوك كالعلم على الساري لكان ذلك أفضل”.

إقامة جبرية، ومراقبة دائمة، واستدعاء للخدمة العسكرية

وفي عام 1951 يقرر ناظم حكمت، الذي ذاع صيته في الشرق والغرب، الإضراب عن الطعام، مطالبا بإطلاق سراحه، لكن الحكومة ترفض طلبه وتتجاهل تردي حالته الصحية، حيث كان يعاني من قصور في القلب، وخلال تلك الفترة فاز حكمت بجائزة مجلس السلم العالمي، كما انتُخب نائبا لرئيس المجلس، مما سلط الضوء أكثر على قضيته وحالته الصحية، وطالب كبار الشعراء والفلاسفة والأدباء والمفكرين في شتى أنحاء العالم بضرورة إطلاق سراحه، وكان من بين هؤلاء بيكاسو، وسارتر، ونيرودا، وأراغون، الأمر الذي أحرج السلطات التركية، وقررت مضطرة الاستجابة لتلك النداءات، وتم إطلاق سراحه مع وضعه تحت الإقامة الجبرية والمراقبة الدائمة.

ثم قررت السلطات استدعاءه لأداء الخدمة العسكرية وهو في الثامنة والأربعين من العمر، ويعاني من المرض الذي كان سببا مباشرا في إعفائه من أدائها قبل ذلك. وقد أدرك حكمت أنهم يسعون إلى القضاء عليه، فلم يجد أمامه من مفر سوى الهرب من تركيا، واللجوء إلى الاتحاد السوفيتي في منتصف 1951.

الهروب من تركيا

وكانت شهرته قد سبقته إلى الاتحاد السوفيتي؛ إذ وجد الكثير من قصائده مترجمة إلى اللغة الروسية، ومنتشرة على نطاق واسع في الأوساط الأدبية والفكرية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، كما تم عرض العديد من مسرحياته على مسارح موسكو وليننغراد. ومن الاتحاد السوفيتي انطلق حكمت في رحلات خارجية زار خلالها الكثير من بلدان العالم.

وجد حكمت الحياة في الاتحاد السوفيتي صعبة، وأصيب بصدمة شديدة جراء تفاصيل الواقع الكئيب الذي اختبره في هذا البلد الاشتراكي، إذ اختفى أصدقاؤه من الشعراء والأدباء والمبدعين بين أسوار السجون والمعتقلات ذات السمعة السيئة، أو نتيجة تعرضهم لعمليات اغتيال ممنهجة، واختفت تماما تلك الأجواء الأدبية المفعمة بالحركة والإبداع والتجديد التي عاشها عند قدومه للدراسة وهو في ريعان شبابه.

وردا على هروب ناظم حكمت قررت السلطات التركية أن تنزع منه الجنسية التركية. ورغم الحفاوة والتقدير الكبير الذي لقيه خارج بلده، بوصفه شاعرا وكاتبا تركيا كبيرا، ودعوته إلى حضور العديد من المؤتمرات والمنتديات الدولية، وترجمة كتبه إلى أكثر من خمسين لغة في العالم، فإن حنينه إلى وطنه ظل يحرك مشاعره، ويوجه إبداعاته الفنية.

وهو الأمر الذي دعاه إلى استخدام أسماء مستعارة خلال السنوات التي كان فيها ممنوعا من دخول تركيا، مثل ممتاز عثمان، وأورخان سليم، وأرجومينت آر، وأحمد أوغوز.

أبو الشعر الحر

ورغم تنوع شعره بين القوالب التقليدية والحديثة، فإن ناظم حكمت اشتهر بتبنيه للشعر الحر القريب من العامية، حيث تميزت أشعاره بالبساطة والمباشرة، دون مواربة، محدثا بهذا الأسلوب ثورة في الشعر التركي مع صدور ديوانه الأول “المدينة التي فقدت صوتها” عام 1931، مبتعدا عن الأسلوب التقليدي للشعراء الأتراك الذين كانوا يهيمون في عوالم تقليدية، مستخدمين قوالب جامدة ولغة معقدة صعبة الفهم على العامة.

وكان لسفرياته وصداقاته مع الكثير من الأدباء من مختلف الجنسيات الغربية والشرقية تأثير كبير على مفرداته اللغوية، التي تميزت بالغنى والقدرة على ملامسة أوتار القلوب.

نأى حكمت بإعماله الشعرية والمسرحية عن إغراءات الزخارف والافتعال، ومال أكثر إلى الإيجاز والاختصار، مما أهله لأن يكون شاعر تركيا الأول. كتب حكمت في أكثر من مجال من مجالات الإبداع الأدبي والفكري؛ إذ صدرت له عدة مسرحيات منها “الجمجمة” عام 1932، و”الرجل المنسي” عام 1935، ومن الروايات “العيش شيء رائع يا عزيزتي” التي صدرت بعد وفاته بعامين أي عام 1967، ومن مجموعاته الشعرية “ملحمة الشيخ بدر الدين” 1935، و”رسائل إلى ترانتا- بابو” 1935، “ملحمة حرب الاستقلال” 1965، و”مناظر طبيعية من بلدي” 1965.

لم ينعزل حكمت عن الأحداث التي كانت تقع في العالم الإسلامي، ولم يشغله حنينه لوطنه الأم عن الاهتمام والتفاعل بقضايا إخوة له في الإنسانية، فقد دعم ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وعندما وقع العدوان الثلاثي على مدينة بورسعيد المصرية عام 1956 انتفض حكمت في منفاه ببراغ ضد هذا العدوان، وكتب قصيدة ذات أبعاد إنسانية رائعة بعنوان “بورسعيد” صور فيها حجم الظلم الذي يقع على إنسان بسيط من أبناء تلك المدينة الباسلة.

تأثر الشعراء والأدباء العرب به

كان لناظم حكمت تأثير كبير على الأدب العربي والأدباء العرب؛ إذ نرى أصداء لطريقته في نظم الشعر في إبداعات العديد من الشعراء العرب مثل نزار قباني ومحمود درويش وبلند الحيدري وصديقه المقرب عبد الوهاب البياتي، إلى جانب الكثير من شعراء العامية العرب.

توفي ناظم حكمت وهو في الحادية والستين من عمره، صباح الثالث من حزيران/ يونيو عام 1963، ونقل جثمانه إلى نفس القاعة التي تم الاحتفال فيها بذكرى ميلاده الستين، حيث تراصت جماهير غفيرة في طابور طويل لإلقاء النظرة الأخيرة على رجل رفض أن ينحني لسلطة، أو يتخلى عن مبادئه في مقابل حريته، وواجه في سبيل ذلك السجون والمعتقلات، والمحاكمات، والنفي، والتخفي خلف أسماء وهمية، ليدفن في مقبرة العظماء بموسكو، ويوضع فوق ضريحه مجسّم على شكل إنسان يحمل على ظهره صخرة كبيرة ترمز إلى تركيا، التي حملها معه في حله وترحاله، وهو مجسّم من إبداعات النحات العالمي مارك شاغال.

وفي عام 2009 قررت حكومة العدالة والتنمية إعادة الاعتبار والجنسية التركية لشاعرها المبدع، لتتنسّم أشعاره أخيرا عبق الحرية في وطن طالما اشتاق إليه مبدعها، لتصبح متداولة على ألسنة الشباب والشيوخ، وتتحول كتاباته الأدبية إلى مرجع تتلقفه الأيدي في ربوع تركيا التي عشقها وتحمل في سبيل ذلك العشق الكثير، ويلقبه النقاد بلقب “بوشكين التركي” تقديرًا لجهوده في التعبير عن البسطاء من المزارعين والبسطاء وتصوير معاناتهم، ولرفعه اسم الأدب التركي إلى مصاف العالمية، وحجز لنفسه مكانا متميزا بين أعظم الأدباء والمبدعين، الذين تفخر بهم الإنسانية.

المصدر : الجزيرة مباشر