إبادة المسلمين الإيغور.. انتصار للوطنية أم تصدّع للصين؟

احتجاج على الانتهاكات بحق المسلمين الإيغور

وسط حملة دولية واسعة لمقاطعة أولمبياد بيجين الشتوية التي ستبدأ 4 فبراير/شباط المقبل، عقابا للصين على التطهير العرقي الذي ترتكبه بحق المسلمين الإيغور وانتهاك حقوق الإنسان، استغلت الحكومة الصينية زيارة وفد يمثل 4 دول عربية مؤخرا، للاتفاق على مشروعات اقتصادية، في الرد على دعوات المقاطعة بأخطر منها. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية (وانغ ون بين) إن ممثلي الدول العربية أعلنوا “دعمهم القوي لحق الصين المشروع بشأن ملف مسلمي الإيغور، وتايوان، واستضافة الأولمبياد وحقوق الإنسان”.

لم تقدّم المعلومات التي طرحها المسؤول الصيني أي جديد، فجميع الدول العربية ترتبط بعلاقات قوية مع الصين التي قد تصبح الشريك الاقتصادي الأول للعرب في بضع سنين. وبعض الأنظمة تحاول أن تدفع بعلاقاتهما إلى المستوى الاستراتيجي، هربا من الضغوط الأمريكية أو طمعا في قروض لا تستطيع جلبها من جهات أخرى، أو بحثا عن سند سياسي يمكّنهم من البقاء في السلطة دون طلب تنازلات باسم الديمقراطية أو حقوق الإنسان.

لقد عبّرت رسالة المسؤول عن قدرات الدبلوماسية الصينية في الفترة الأخيرة على صناعة صورة زائفة عن الواقع، عبر دبلوماسية القروض والتطعيمات، وتصريحات تروّج لها عبر شبكات دولية وقنوات رسمية وشخصيات شهيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، تمولها بمليارات الدولارات، في محاولة لتغيير قناعات الشعوب وإزالة وصمة العار عن الجرائم التي ترتكبها في حق المسلمين الإيغور، وفي هونغ كونغ والتبت.

أراد المسؤول أن يوجه الرأي العام وبخاصة العرب والمسلمين بأن قادتهم منخرطون في ما تفعله الصين من قمع سياسي وثقافي وديني للإيغور، وما عليهم إلا الإنصات إلى الأصوات التي تأتيهم من شينجيانغ (تركستان الشرقية)، عبر الأفلام المعلبة وشخصيات لا ترى هناك إلا مجتمعا مستغرقا في الرقص والشهوات، بما يوفره الحزب الشيوعي من “عيش رغيد” لجميع المواطنين!

وللناس أعين

ينسى أمثال هذا المسؤول أن له عينا وللناس أعين، وأن صرخات المعذبين إن تغافل عنها الحكام وأولو القربى فإنها تخترق آذان الأحرار في كل مكان. فها هي فرنسا الحليفة الكبرى للصين في أوربا، تصدّق جمعيتها الوطنية، الأسبوع الماضي، على قرار “يندد بممارسات القمع والإبادة” التي يتعرض لها مسلمو الإيغور. وطالب 169 عضوا -مقابل صوت معارض- الرئيس ماكرون بمقاطعة الأولمبياد المقبلة، وعدم حضور أي من ممثلي الدولة أو الحكومة افتتاحها في الصين. ولم تفلح أصوات بيجين الزائفة في مواجهة الرأي العام الدولي الذي يلاحق الدول والشركات التي لا تستجيب للمطالبة بالضغط على الحكومة الصينية لإلزامها بعدم الانزلاق إلى الصفحة السوداء في تاريخ الأمم الاستعمارية الكبرى، حينما قتل الرجل الأبيض ملايين البشر من الهنود الحمر، عندما وصل البريطانيون والفرنسيون والإسبان والبرتغاليون إلى أمريكا الشمالية والجنوبية وقتل الإنجليز الأستراليون الأصليون، ونظموا وغيرهم حملات الإبادة الجماعية في أفريقيا وآسيا.

لم يأت الدعم الدولي من فراغ، فليس هناك أقوى من العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، فكل منهما يمثل الشريك التجاري الأول للآخر، ورغم التنافس السياسي والسباق التكنولوجي، فلن يبتعد طرف عن الآخر لعقود قادمة. مع ذلك تُعد قضية الإيغور من القضايا الجامعة للأمريكيين، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. فهذا وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، يقول قبل رحيله بيوم واحد “إن تصرفات الصين ضد أقلية الإيغور تشكل إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية”، بينما قال خليفته الديمقراطي أنتوني بلينكن بعد أسبوعه الأول في السلطة “إن الدليل على الفظائع التي ترتكبها الصين ضد الأيغور لا يمكن إنكاره”. وأصدر الرئيس بايدن “قانون الإيغور” الذي أجمع عليه الأمريكيون بهدف منع الصين من استمرار حملات الإبادة الجماعية التي تمارسها ضد الإيغور.

فالتقارير التي تأتي على لسان شهود عيان من الخبراء والزائرين والصحفيين، ترى أن ما يحدث هناك “اغتصاب منهجي” كما تصفه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). وما نسمعه من زملائنا ومصادرنا من الإيغور، جعلنا نراجع الكثير مما ترسله إلينا السفارات الصينية، وما يقوله المسؤولون الصينيون من معلومات تتناقض تماما مع ما يحدث على أرض الواقع. وأمام هذا الكم الهائل من القمع الذي امتد إلى محاولة اقتلاع الدين من نفوس المواطنين، وتدمير المساجد ومصادرة المصاحف وتحريم الصيام والأكل الحلال، بهدف قطع علاقة الإيغور مع جذورهم التركية أو روابطهم الإسلامية والعربية وتبديل أصولهم، يدفعنا إلى تجاوز ما يقوم به المجتمع الدولي برمته. فالكل ما زال يتعامل مع قضية الإيغور على أنها قضية داخلية في الصين و”اضطهاد عرقي لأقلية الإيغور ذات الأغلبية المسلمة” باعتبارها جزءًا من الوطن الصيني الأم، وليس كيانا منفصلا احتله الصينيون في ظروف تاريخية مغايرة.

لغة الأجداد

لن نتكلم عن الماضي البعيد حيث دخل الإسلام المنطقة في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، وانتشاره بين الإيغور ومنها دخل الصين، وعرفته قبائل القازاق والأوزبك والمغول المنتشرة في آسيا الوسطى على طول طريق الحرير القديم الذي كان يربط الصين بأوربا عبر تركيا وإيران ودمشق والقاهرة. يتكلم الإيغور لغة أجدادهم، حيث يعتزون بأنهم أصل العرق التركي، فأطلقوا على أرضهم “تركمانستان”، ويتمسكون بإسلامهم على المذهب الحنفي، وأسمائهم العربية والتركية التي يريد الصينيون الآن محوها لتحمل أسماء قومية “الهان” التي تحكم كقوة قاهرة للقوميات الصينية الأخرى. فشينجيانغ -وطن الإيغور- التي تعني “الحدود الجديدة” باللغة الصينية، احتلتها سلالة أسرة “تشينغ” في منتصف القرن الثامن عشر، وظلت محكومة عبر أميرها المحلي الذي يكتفي بدفع الجزية إلى الإمبراطور في بيجين، ولم تتحول إلى مقاطعة صينية إلا في أواخر القرن التاسع عشر. عندما سقطت أسرة تشينغ في عام 1911، احتلت اليابان المناطق المتاخمة لها، وظلت المنطقة سائبة بين بقايا الإمبراطوريتين الروسية والتركية، مع ارتباط ضعيف بالسلطة المركزية، حيث انشرت الحروب الأهلية. بعد سيطرة الحزب الشيوعي على الحكم عام 1949، سار على نهج حليفه الاتحاد السوفيتي، بممارسة سيطرة أكبر على المنطقة، وأعاد تسميتها باسم “شينجيانغ الإيغورية ذاتية الحكم”.

تنكّر الشيوعيون للحقوق الوطنية للإيغور، فتخلصوا تدريجيا من القيادات المحلية، وبعد ظهور البترول والغاز واليورانيوم والمعادن النفيسة والاستراتيجية في أراضيها، عملوا على ترحيل قبائل من الهان إلى المنطقة بدءا من عام 1960، حيث لم يزد عددهم في تلك الفترة عن 6% من تعداد السكان، حتى أصبحوا 38% عام 1983، والآن في طريقهم ليكونوا الأغلبية بعد الاستيلاء على أراضيهم ومدنهم القديمة. مع ذلك لم تفلح سياسة وضعها ماو تسي تونغ في القضاء على المظاهر الثقافية والدينية للمنطقة التي ظلت مختلفة عن كل ما هو داخل الصين، ويسكنها 12 مليون مسلم.

شهدت المنطقة ازدهارا في العلاقات مع بيجين في عهد دنغ شياو بنغ، دفعت الإيغور إلى الاندماج في الدولة، بعد أن سمحت الحكومة بإعادة فتح المساجد وتعلّم اللغة التركية، وإنجاب 3 أطفال على خلاف “الهان” الممنوعين من إنجاب أكثر من طفل. وسمحت السلطات بدخول ممثليهم مجلس نواب الشعب وتحولوا إلى قادة في السياسة والثقافة والعمل العام. تبدّل كل ذلك بعد قمع الصين للمظاهرات الطلابية في ميدان تيآننمين عام 1989، وزاد عنفه مع انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث خشيت الصين أن تصحو يوما لتجد الأقليات العرقية تطالب بانفصال الأقاليم عن حدودها، فتلقى المصير نفسه. مارس النظام العنف والانتقام من الإيغور الذين فشل في تبديل هويتهم قسرا، وزاد  بعد أن رفض عدد من الشباب حملات القمع على أهلهم وشكلوا ما يسمى “الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية”، متأثرين بتنظيم القاعدة. استغلت الصين هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في شن حملات لقمع الأقلية المسلمة، وزعمت ارتباط جميع الإيغور بتنظيم القاعدة، فقمعت تجارا وفنانين ومثقفين علمانيين ووطنيين، ثم شرعت في القضاء على أي مظاهر تدل على الهوية الإيغورية، مع الدفع بملايين من “الهان” وإقامة مشروعات ضخمة تعمل على تغيير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.

استغلال الربيع العربي

استغلت الحكومة الصينية ثورات الربيع العربي في إقناع الأنظمة العربية المحاربة للتغيير بخطورة الإيغور على مجتمعاتهم، مع سفر عشرات الآلاف منهم لتعلّم الإسلام الممنوع عليهم في بلدهم، بدراسته في تركيا والدول العربية الثائرة، ومنها مصر وسوريا. أخضعت الصين عُشر السكان للعيش في معسكرات اعتقال جماعي، لإجبارهم على الامتثال للتحول، عبر برامج عمل بالسخرة، والتدريب الالزامي لتعلّم اللغة الصينية، والتعقيم القسري، واتفقت مع قادة عرب على إعادة المغتربين قسرا لاحتجازهم في تلك المعسكرات.

لا تستهدف تلك الحملات مواجهة إرهاب غير موجود واقعيا، فهي ترى أن قومية الإيغور عقبة في طريق الدولة الصينية. فأصبحت تلك المقاطعة رقم (21) من حيث عدد السكان، تحتل المرتبة الثالثة في الإنفاق على الأمن العام والسجون ورقابة الناس على مدار الساعة، التي كلفت الدولة 216 مليار يوان عام 2019. منذ عام 2017 والرئيس شي جين بينغ يدفع بالمواطنين إلى حالة من “الجنون القومي حول شينجيانغ”. ورغم قوانين المقاطعة والحظر للبضائع والشخصيات السياسية، التي تشنها الولايات المتحدة وأوربا واليابان وأستراليا وكندا وغيرها احتجاجا على هذه المجازر ضد الإيغور، فإنه يُوظّف ذلك لتغذية الغضب الجماعي من الغرب، وتفجير المشاعر العدائية بحق الإيغور. يعتقد (شي) أنه كلما وظّف الدعاية في تغيير التاريخ، سيغيّر ذلك شرعية الإيغور وثقافتهم إلى الأبد.

عكست كلمات مسؤول الخارجية الصينية جدية مخاوف بيجين من العقوبات التي تفرضها الدول تضامنا مع الإيغور، مع ذلك يتصرف بغطرسة، ويرى أن قرارات الحظر تنمّر اقتصادي بدولته، ملوّحا بأن الصين لن تكون يوما مثل الاتحاد السوفيتي. ينسى هؤلاء أن التاريخ له أحكام أخرى قاسية، على من لا يُشعِرون الناس بالرضا، ويجعلونهم يحيَون في خطر دائم. فإذا لم يتحرك الرئيس شي جين بينغ لإنقاذ حلمه في “التجديد العظيم لميراث الأمة الصينية” فقد تكون شينجيانغ شاهدا على استمرار هذا التصدع في الوطن الذي تسربت منه جزيرة تايوان، مفضلة البقاء خارجه.

المصدر : الجزيرة مباشر