في ذكرى ثورة 25 يناير المجيدة.. الفقر ليس قدَرًا والعلم هو الحل

من فيلم "لا تنظر إلى أعلى".

(1)

جميع أفلام الخيال العلمي المدهشة لها جذور علمية، وهذا الجذر هو البذرة الأولى التي يتم تنميتها بالخيال الإنساني المبدع لتكوين عالم افتراضي يدخله المشاهد ويتجول بين أرجائه، ويتماهى مع شخوصه ليصبح جزءًا منه عن غير قصد منه، وإلا فكيف يمكن تفسير ارتباط المشاهدين حول العالم بسلسلة أفلام “ستار وورز” و”ماتريكس” وغيرها. الخيال هو المحرك الأول للتطور الإنساني، ولولاه لظل الإنسان مثل سائر الكائنات سجين واقعه المكاني حبيس جسده المادي المحدود، الخيال يلهم فضولنا الإنساني لمعرفة ماهية الكون وسننه وقوانينه ومعرفة أجسادنا كيف تعمل وعقولنا كيف تفكر، الخيال هو ملهم العلماء والمبدعين في كل المجالات، والمعرفة والعلم والقدرة على تطبيقهما هو ما يجعلنا اليوم نستمتع بهذه التقنيات المذهلة التي يتشارك فيها المخططون لها وصنّاعها ومتلقّوها، على بُعد الشقة بين الثقافات.

(2)

أفلام نهاية العالم كثيرة وهي تفتح باب التأمل والنقاش حولها، وقد أثار فيلم “Don’t Look Up” (لا تنظر إلى أعلى) الذي عُرض مؤخرًا على منصّة “نتفليكس” كثيرًا من الجدل، وهو من نوع الكوميديا السوداء، وهو أقرب إلى محاكمة علنية للنظام الرأسمالي المتوحش، وفساد النظام السياسي الأمريكي وعبث الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. ويروي الفيلم قصة اثنين من علماء الفَلَك يحاولان تحذير العالم من اقتراب مذنّب سيدمر كوكب الأرض في غضون توقيت محدد، لكن تحذيراتهما لا تؤخذ على محمل الجد ونشاهد نهاية كوكبنا بسبب تقاعس المسؤولين عن سلامة الأرض. وقد قدّم  الفكرة نفسها المخرج المتميز “لارس فون ترير” في فيلمه “ميلانكوليا” إنتاج 2012، وتدور قصته أيضًا حول اقتراب الكوكب الأزرق “ميلانكوليا” من الأرض واصطدامه بها، لكن الفيلم أكثر عمقًا وجمالًا وإنسانية من الفيلم الأمريكي، وغارق في كآبة النهايات، لأننا كبشر -طبقًا لرؤية المخرج- قد جعلنا من الأرض مكانًا شريرًا.

كل من يؤمن بالعلم والأديان السماوية أو بأيّهما وحده يعرف أن عالمنا الذي يعيش على كوكب الأرض سينتهي حتمًا يومًا ما، كما نؤمن بأن العلم سيعجز عن منع نهاية كوكب الأرض، لكن هذا لم يمنع أصحاب العلم من محاولة إيجاد حل لعدم انقراض الجنس البشري، بالبحث في الفضاء عن مكان يمكن أن ينقلوا إليه مجموعة مختارة من البشر ليبدؤوا فيه حياة جديدة.

أصحاب العلم لا يتخلصون من المشكلات بإلغائها، لكن يبحثون عن حلول لها، والأصل الأخلاقي أن يكون هدفهم هو جعل حياة الإنسان أفضل ماديًّا. وبناءً عليه، فالفقر عند العقلاء وأصحاب العلم ورجاله ليس قدَرًا لكن محض مشكلة، وفي مقدور العلم حلّها، وتجارب أمم كثيرة تؤكد ذلك، وإن غاب مثلها في الوطن العربي.

(3)

قد يسأل القارئ: ما علاقة هذه المقدمة الطويلة بعنوان المقال، وأرجو منه الصبر، فلديّ فكرة أحاول توضيحها، وهي أن كل ثورات الربيع العربي ومنها الثورة المصرية، قامت في الأساس لأسباب تتعلق بإصلاح أوضاع حياة الشعوب التي ساءت حيث لم تهتم نظم الحكم في تلك الدول بتحسين أوضاع حياة المواطنين ولم تجعلها هدفًا لها، حيث كان همّها الأول تأمين بقائها واستمرارها في حكم البلاد والعباد، والاستعانة بأصحاب الولاء لا الخبرة والعلم، فظلت شعوب هذه الدول تعاني سوء الأحوال المعيشية بجانب الاستبداد في الحكم وما يحيط به من فساد وتهميش للحقوق والحريات.

كان شعار الثورة المصرية “عيش..حرية..كرامة إنسانية..عدالة اجتماعية” فكان توفير حق الحياة (العيش) هو المطلب الأول للثورة، الآن مضى أكثر من عَقد على ثورات الربيع العربي، فماذا تحقق خلالها من أحلام الشعوب الثائرة وطموحاتها؟ لا شيء!

(4)

من العجب أن ينظر بعض الناس إلى ثورات الربيع العربي على أنها كانت كارثة أحاقت بشعوب عدد من البلدان العربية وتركتها أسوأ مما كانت عليه، ولم يتحقق لشعوبها أيٌّ من أمانيها، بل ساءت أحوالها الاقتصادية، كما انهارت سيادة دول وهجرها مواطنوها على أثر حروب أهلية دموية خارجة عن سياق  الربيع العربي ومناقضة له، وأخرى ما زالت لم تتعافَ، وهو أمر في الحقيقة صادم وعجيب بالنظر إلى أحوال دول أخرى، مثل ألمانيا واليابان، اللتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية في حالة دمار شامل، واستطاعتا -في أقل من عشر سنوات- التعافي مما لحق بكل منهما من خراب، بل حققتا أكثر من ذلك، إذ وجدتا طريقهما إلى التقدم والرفاهية، وأصبحتا في زمن قصير من الاقتصادات القوية، فلماذا عجزت الدول العربية -ومنها مصر على سبيل المثال- عن ذلك؟ رغم أن مصر عبرت مرحلة الفوضى ووصلت إلى مرحلة استقرار الحكم وتأمين البلاد وحدودها، وتم إنجاز مشروعات بنية تحتية وأخرى تنموية، لكننا ما زلنا في وضع اقتصادي سيّئ، وما زال المواطن البسيط لا يشعر بأي تحسّن في مستوى معيشته، بل إن حياته أصبحت أكثر صعوبة مع ارتفاع أسعار الخدمات والسلع نتيجة رفع الدعم الحكومي عنها.

السؤال بشأن ألمانيا ما بعد الحرب بسيط والإجابة أبسط، ألمانيا دُمّرت لكنها عادت بفضل قاعدتها العلمية، والسؤال الذي لا مفر من استحضاره: كيف تستعيد مصر مسارها الحضاري والإنساني؟ والإجابة بسيطة لكنها أثقل عبئًا وتحقيقها أشد ضرورة، إذ علينا في مصر المبادرة إلى إقامة بنيان قاعدتها العلمية، وتأسيس هيكل متكامل لتوفير التعليم الجيد والعناصر الواجبة للبحث العلمي الجاد والمثمر والمبدع. هذا هو الطريق الوحيد لتحسين حياة الناس والانتقال من العوز والفقر إلى الحياة الكريمة ثم الرفاهية، ولا طريق آخر لذلك خاصة مع زيادة الاعتماد مستقبلًا على الذكاء الاصطناعي لتطوير التقنيات العلمية المستخدمة.

(5)

الفقر ليس قدَرًا محتومًا ولا ميراثًا ينتقل من جيل إلى آخر كما يروّج البعض، بل مشكلة يمكن للدول التغلب عليها عن طريق تقديم تعليم جيد وإنفاق سخي على البحث العلمي. سنغافورة وماليزيا وغيرهما من الدول محدودة الموارد لم تتردد بشأن الاستثمار في العلم لتخرج من عوزها، وكذلك فعلت الهند حين وضعت خطة طموحة للتفوق في مجال تقنية المعلومات والبرمجيات. والتعليم يجب أن لا يتوقف فقط عند الصغار لكن يجب أن نستثمر في تعليم الكبار وتدريبهم على صناعات بعينها تحتاج إليها السوق المحلية وأخرى للتصدير، وعلى الحكومة أن تفكر في عودة نظام الخدمة العامة للإناث، وهو البديل عن التجنيد للذكور، وتكليف خريجات الجامعة بتعليم الكبار ومحو أميتهم بعد تدريبهن على التدريس. وعلى الحكومة المصرية الاستفادة من أبنائها في الخارج من أصحاب الخبرات في جميع المجالات، والاستعانة بهم بدعوتهم إلى مؤتمر كبير للاستماع لأفكارهم ورؤيتهم للتغلب على مشكلاتنا المزمنة في كل مجالات الحياة.

(6)

التعليم الجيد لن ينقل مصر من الفقر إلى السعة فقط، بل سينقل المواطنين من مرحلة الغفلة إلى الوعى بأمور دنياهم وإيجاد حلول لمشاكلهم المعيشية بشكل مبدع وملهم، كما أن المواطن المتعلم أصعب من الأمي في التلاعب بعقله وسلبه وعيه وسيكون أكثر حرصًا على حقوقه وحرياته، وأعتقد أنه من أسباب فشل ثورة يناير المجيدة في تحقيق أهدافها أن القوى الثورية لم يكن لديها أفكار أو خطط مدروسة علميًّا لما بعد سقوط مبارك، ولم يكن لدى جموع المصريين الوعى الكافي الذى يمكّنهم من الحكم على الأمور بعقلانية وليس بحماس الميدان واندفاعه.

سلامًا على كل مصري ما زال يحمل أحلام الثورة في قلبه، ويقينًا بأنها ستتحقق يومًا.

المصدر : الجزيرة مباشر