“بديع الزمان” التركي أراد توحيد الأمة.. فتفرقت جماعته إلى أربعين فرقة!

النورسي "بديع الزمان"

رغم أن النوريين جماعة دينية تنتمي إلى الطرق الصوفية بطابعها المتعارف عليه، من الميل إلى الابتعاد عن السياسة وتركيز القيم الروحية والأخلاقية في نفوس أتباعها فإن النوريين يرفضون هذا التوصيف، ويرون أنهم في الأصل مدرسة للتأويل أسسها الشيخ سعيد النورسي (1873 – 1960م) المولود في قرية “نورس” القريبة من بحيرة “فان” بمحافظة “بتلس” الواقعة جنوب شرق الأناضول لأبوين كرديين محافظين، ومن هنا سميت جماعته بالنورسيين. وقد تلقى النورسي في صغره تعليما دينيا سلفيا على أيدي مشايخ بلدته. ونظرا لذكائه الحاد وعبقريته التي ظهرت مبكرا أطلق عليه أهل بلدته لقب “بديع الزمان”.

استطاع وهو ابن ثمانية عشر عاما الإلمام بالعلوم الدينية من قراءات وتفسير وفقه وحديث وبلاغة وغير ذلك، إلى جانب الكثير من العلوم العقلية، وكان بارعا في ركوب الخيل والرماية والمصارعة، متخذا طريق الزهد والتقشف أسلوب حياة، وخلال وجوده في بلدته سعى إلى فتح مدارس دينية في مدينة “فان” شرق تركيا جمعت بين المناهج الدينية وتدريس المواد العقلية من علوم ورياضيات، بهدف تطوير العملية التعليمية لمسايرة العصر، وتنشئة أجيال جديدة من المسلمين المدربين تدريبا جيدا في مجالي العلوم الدينية والعلوم الحديثة، لسد الفجوة الكبيرة القائمة بين العالم الإسلامي المتدين والعالم الغربي المادي الذي أصبح أكثر تقدما في العلوم العقلية.

بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني نتيجة تآمر الصهيونية العالمية عليه بالاتفاق مع “جمعية الاتحاد والترقي” التي رفعت شعار الوحدة والحرية والإصلاح لجذب المواطنين وضمان دعمهم لخططها العلمانية الهادفة إلى فصل الدين عن الدولة، قام الشيخ سعيد بتشكيل “جمعية الاتحاد المحمدي”، مستخدما نفس الشعارات التي رفعتها جمعية الاتحاد والترقي، ولكن بمفهومها الإسلامي الصحيح، في محاولة منه لكشف النقاب عن الوجه الحقيقي لهؤلاء الذين ينتمون إلى الفكر الغربي ويؤمنون إيمانا راسخا بالمبادئ الماسونية، ويُكنّون كراهية شديدة لكل ما يمت للإسلام بصلة.

وفي مواجهة هذه الأفكار الهدامة، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه أولى النورسي اهتماما بالغا بمسألة تهذيب النفوس، ونشر حقائق الإيمان، وإعداد أتباعه لمواجهة المد العلماني الذي اجتاح أرجاء تركيا عقب سقوط الدولة العثمانية، وإعلان الجمهورية التركية، التي اعتمدت العلمانية المتطرفة، ونحت الدين جانبا، وقررت الارتكاز على الفكر الكمالي الغربي والتعاليم الماسونية.

معاناة ومحاكمات واعتقال بسبب دعوة الحق

ومع بداية عهد الجمهورية التركية، بدأ القلق يتسرب إلى نفوس العلمانيين الذين تولوا السلطة في البلاد، من دعوة النورسي مع تزايد عدد تلاميذه وأتباعه، فبدؤوا مهاجمته ومعارضته، ولما فشلوا في القضاء على دعوته، استنزفوا حياته في المحاكمات والسجون والمعتقلات والنفي من مدينة إلى أخرى، بدعوى السعي لهدم الجمهورية العلمانية، وإفشال الثورة الكمالية، وتشكيل جمعية سرية خلافا للقانون، ومهاجمة مصطفى كمال أتاتورك، والعمل على إثارة روح التدين بين المواطنين الأتراك!!

حتى إنهم أدخلوه مستشفى المجانين حينما طالب بضرورة إصلاح التعليم، وإنشاء جامعة في شرق الأناضول باسم “الزهراء” ثم قرروا محاكمته أمام محكمة عسكرية عرفية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة الإسلامية.

تلك المحاكمات لم تحقق مبتغى جلاديها، فقد كان الشيخ قوي الحجة، بليغ المنطق والبرهان، لينقلب السحر على الساحر، ويتحول الوضع وكأن المحكمة نصبت لمحاكمة الأفكار العلمانية وتفنيد دعاوى الحرية التي يدعيها أتباعها، وهو ما أدى إلى زيادة أتباع النورسي، وانتشار أفكاره ودعوته بين العامة.

رسائل النور ترى النور على أيدي أتباعه ومريديه

وخلال فترة وجوده في السجن كتب الشيخ سعيد النورسي رسائل باللغة التركية تعرف باسم “رسائل النور” وهي عبارة عن  مجموعة من الإرشادات والتوجيهات الدينية حول معاني العبادة والعقيدة الإسلامية تحوي حكمة الصلاة والصوم، وتفسير الكثير من آيات القرآن الكريم، إلى جانب توجيهات تختص بتقويم سلوك المسلم وطريقة تعامله مع الآخرين، وأهمية العمل المتواصل وارتباطه الوثيق بالتفكير الإيماني، وشحن القلب بالذكر والدعاء لبلوغ الإيمان العميق.

بلغ عدد رسائل النورسي أكثر من مائة وثلاثين رسالة، رتبها ترتيبا منطقيا، وكان تلاميذه يقومون باستلامها منه، وينسخونها بخط اليد، تمهيدا لتوزيعها على العامة في الأسواق والمدارس والجوامع، وهو ما عرض الكثير منهم إلى الاعتقال والمحاكمة والسجن لفترات طويلة.

ومع كل ما تعرض له الشيخ وتلاميذه من اضطهاد فإنه تمكن من نشر دعوته في جميع أنحاء تركيا، وجذب الكثير من الطلاب إليها، خاصة في فترة الستينيات أثناء حكم الحزب الديمقراطي؛ إذ تمكن طلابه ومريدوه من إنشاء دوائر لدراسة تفسيره للقرآن الكريم، ورسائل النور التي خطت منهجا تنظيميا لأتباعه.

بديع الزمان وشيطنة السياسة

ورغم ما بذله النورسي من جهد في سبيل إعلاء كلمة الحق، فإن هناك من يأخذ عليه هو وجماعته عدم الاهتمام بتأسيس كيان إسلامي منظم للتصدي للصهيونية العالمية المعادية للإسلام، التي كانت متغلغلة في مختلف مناحي الحياة السياسية آنذاك، لكن هؤلاء  تجاهلوا الظروف المحيطة التي نشأت فيها جماعة النوريين، تلك الظروف التي لم تكن تتيح لها سوى ذلك الشكل الذي ظهرت به.

وفيما يخص عدم مساندة النورسي للشيخ سعيد الكردي في ثورته ضد مصطفى كمال أتاتورك عام 1925م، فإن هذا مرجعه أن بديع الزمان يرتكز في فكره على قضية مجاهدة النفس أولا، ثم الدعوة إلى التنوير، وقد نادت جماعته منذ نشأتها بإصلاح القلوب وتنوير العقول، والبعد تماما عن الدخول في معارك مع المخالفين لفكرهم سواء كانوا حكاما أو محكومين، مع الالتزام بسلمية دعوتهم، والابتعاد بها عن فكرة المواجهة المسلحة إلا ضد العدو الخارجي من الكفار الذي يهدد أمن الأمة المسلمة.

أما السياسة فهي أبعد المسارات عن منهجهم، وذلك وفق رؤية النورسي الذي كان دائما يردد “أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة”، وهو الأمر الذي يبرر عدم انخراطهم حتى اليوم في الحياة السياسية داخل تركيا، وتفضيلهم دعم أحزاب يمين الوسط على دعم الأحزاب الإسلامية التي شكلها الراحل نجم الدين أربكان، ولكن الأمر اختلف بعد تشكيل حزب العدالة والتنمية.

قضى الشيخ سعيد النورسي آخر أيام حياته في مدينة “إسبارطة” معزولا عن الناس، تحت الإقامة الجبرية، ثم توجّه قبل وفاته بثلاثة أيام إلى مدينة “أورفه” دون الحصول على إذن رسمي، ولكن القدر لم يمهله أكثر من يومين فقط في أورفه، ليلاقي ربه في السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1379هـ، بعد أن كرس جل حياته لمقاومة العلمانية والتصدي للماسونية والصهيونية العالمية وما تحيكانه ضد الإسلام والمسلمين، ومحاولة إعداد جيل جديد من المسلمين يمكنه الوقوف بصلابة في وجه المؤامرات التي تحاك لهذه الأمة.

انقسام إلى طوائف وجماعات

وبعد وفاته انقسمت جماعة النوريين أو النورسيين إلى طائفتين هما القراء والكتاب، وتركز الخلاف بينهما حول طريقة تدريس رسائل النور، إلا أن هذا الخلاف تعمق وتزايدت أسبابه، ليقع المزيد من الانقسامات، وتتحول الجماعة -التي أراد صاحبها من تشكيلها تجميع الأمة حول كلمة الحق، وتوحيد موقفها في مواجهة عملية التغريب الممنهجة- إلى أكثر من أربعين جماعة داخل تركيا وخارجها. ويمكن تحديد اثنتي عشرة جماعة منهم لا يزال لديهم تأثير قوي وفعال في أتباعهم ومريديهم، الذين يبذلون جهدهم للسير على نهج بديع الزمان سعيد النورسي.

المصدر : الجزيرة مباشر