ماذا فعلت المستشارة لخدمة الديمقراطية؟!

تهاني الجبالي

تُوفيت المستشارة تهاني الجبالي 9 يناير الجاري، ولحقها الإعلامي وائل الإبراشي في نفس اليوم، والاثنان يصطفان معًا في الفريق القريب من السلطة في مصر.

وهذا المقال يركز على تهاني الجبالي بشكل خاص، لأنها كانت من الشخصيات المعروفة في مهنة المحاماة ثم القضاء، ومن الناشطات في المجال العام، ولها بروز في الإعلام منذ عقود، والمؤكد أنها كانت تمتلك تأثيرًا في الجمهور العام، أو على الأقل في شريحة من جمهور له اتجاه فكري وأيدولوجي معين، وهو اليسار ويسار الوسط.

ومن لا يميل للمؤيدين بتطرف، ولا للمعارضين بتطرف، فإنه لا يتعامل مع الأشخاص بمنطق الحب أو الكراهية، أو الانحياز لهم أو الوقوف ضدهم، وهذه الخانة الوسطية مريحة، تجعلك تتعامل مع الكل على قدم المساواة، ولا تتحرج من أن تشيد بالشخص متى استحق ذلك، أو تنتقده طالما رأيت أن فيه ما يستوجب النقد.

لكن هناك قضايا كبرى، لا تحتمل الوسطية، أو المواءمات، أو التوازنات، وعلى رأسها قضايا الديمقراطية والحريات والحقوق الإنسانية والاجتماعية، والموقف من هذه الموضوعات لا يحتمل تلوينها بأنها قضايا هذا التيار أو ذاك، وأن من يدافع عنها ينتمي لهذا الطيف أو ذاك، هي ثوابت وقواعد أساسية ونماذج في قياس مدى الاستقامة السياسة لكل من ينتمي لمجتمع النخبة ويتصدر الواجهات والشاشات وقيادة الرأي العام.

ملاحظات مفصلية

تهاني الجبالي درست وتعلمت وحصلت على شهادة الحقوق، وهذا جيد، ومارست المحاماة، وكانت أول سيدة تُنتخب في المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، وكانت أول محامية تترشح وتفوز مرتين في انتخابات مجلس نقابة المحامين، وعينها مبارك قاضية في المحكمة الدستورية، لتحمل لقب أول قاضية في مصر، وكانت متحدثة لبقة في القانون والدستور والسياسة والشأن الجاري، وليس من الإنصاف تجريدها من كونها فرضت نفسها شخصية عامة لها حضور وتحظى بمواصفات ميزتها عن كثير من السيدات اللاتي ينشطن مثلها.

ولكن لنا ملاحظات بشأن القضايا المفصلية التي أشرنا إليها من قبل، خاصة خلال سنوات العقد الثاني من هذا القرن، وهي مرحلة من أهم وأخطر الفترات في تاريخ مصر الحديث.

هناك مواقف من أطراف سياسية حزبية وأيدولوجية، ومن أطراف سلطوية، أو تتمسح بالسلطة، يخلطون فيها بين النضال المستقيم سياسيًّا من أجل القضايا الحاكمة التي لا يجوز التفريط فيها أو التنازل عنها أو التضحية بها، وبين النضال المخبوء بداخله أهداف ضيقة قصيرة النظر حتى لو كانت هذه الأهداف ضمن أبرز اهتمامات الشخصية العامة، والنضال الساذج المجاني الذي لا تُؤمَن عواقبه.

وأزعم أن الجبالي سارت في هذا الطريق؛ سواء بوعي، أو حماسة وقتية، أو اندفاع لم ينظر أمامه بشكل معقول.

نعم، هي كافحت ضد التيارات الدينية والمتطرفين، ليس بعد ثورة يناير، ولا بعد وصولهم للحكم وحتى طردهم منه فقط، وإنما كان لها موقف مسبق منهم ومن الجماعة الجدلية في كل العصور، لكن نضالها ضد الإخوان وغيرهم بعد يناير، أخذ في طريقه أهداف يناير، وفي القلب من هذه الأهداف حلم ونبتة الديمقراطية الناشئة.

فليخرج الإخوان من الحكم -وهذا أمر كان متوقعًا- ولكن لماذا تخرج الديمقراطية وفكرتها نفسها من السياسة والوضع الجديد؟ ولماذا العودة إلى هيكلية وبنية الحكم السابق؟ وأين كان صوت السيدة تهاني، وغيرها أيضًا، لتسجيل موقف تذكيري بأنها مع الحكم الرشيد الذي كانت تتحدث عنه بعد يناير، وهذا لم يكن يضرها في شيء، وإنما يمنح نضالها قيمة أكبر بأنها كانت على طريق صحيح، ولما وجدت الطريق لا يسير على استقامته فإنها تنبه إلى إخلاصها للقضايا المبدئية لديها؟

هل نتقدم إلى الأمام، أم نعود إلى الوراء، ويتم تقليص مكتسبات كانت قد تحققت في الماضي؟ هامش الحريات والحقوق إما أن يتسع، أو على الأقل يظل كما هو فلا يضيق، وإما أن يتجه إلى ما يشبه الانغلاق، فكأننا نعاقب أنفسنا ونقول إننا لم نكن حتى نستحق ما كنا فيه وانتزعناه طوال سنوات ما قبل يناير من هامش حريات رغم محدوديته.

إطاحة الإخوان تمت تحت ضغط حشود شعبية ضخمة، وجدل واسع صاحب وصولهم للحكم، وتواضع أدائهم خلال عامهم الوحيد، وانفلات الأوضاع منهم، مما كان ينذر بمخاطر على الاستقرار والسلم العام، لكن لماذا يتم التضييق على الحريات العامة والديمقراطية الناشئة والدولة المدنية وملف العدالة الاجتماعية؟

لم يعد ممكنًا أن تجيب عن السؤال السابق، ولا أي سؤال، لكنها أجابت دون أن تتحدث، بعد أن توارت عن الأنظار، ولم نسمع لها صوتًا بشأن الحريات والحقوق العامة والنظام الديمقراطي، ومجمل الملف السياسي والاجتماعي، وأهداف وشعارات يناير ويونيو، وتقريبًا فُرض عليها الصمت، أو انعقد لسانها، ودخلت النسيان.

فإذا كانت النظم الجديدة التي تتشكل في عقلها رؤية خاصة بها في الحكم تراها مناسبة في مرحلة تاريخية معينة لتجاوز ظروف أو تعقيدات مستجدة بهدف تحقيق الاستقرار وفق تقديراتها، فإن النخبة مطالبة من باب الإخلاص للقضايا الكبرى التي أشرنا إليها -وهي الأصل في بناء نظام ودولة عصرية تسير على الطريق الآمن- بألا تصمت، بل تتحدث بشأن هذه القضايا بلغة سياسية واضحة، حتى لا يضعها التاريخ بعد ذلك في خانة غير جيدة.

شرر مزعج

والمتابع يتذكر أن تهاني الجبالي تعرضت لشرر مزعج إثر تباطؤ الحراك الديمقراطي الذي كانت تنادي به، وتهاجم خصومها وتتهمهم بالاستبداد بسببه.

ففي برلمان 2015 قادت تجمعًا انتخابيًّا باسم التحالف الجمهوري للقوى الوطنية، لمنافسة قائمة (في حب مصر) القريبة من السلطة، واشتكت مرارًا من الخروقات ضد قائمتها ومرشحيها، والتضييق عليها، ونفوذ المال السياسي، وإغراءات الناخبين في الدوائر، وسقطت هي وقائمتها ومرشحوها، وكان هذا متوقعًا، وربما عندما دخلت الساحة السياسية العملية فوجئت بعدم وجود الآليات التنافسية العادلة، فالساحة لم تعد لها، إنما هي لآخرين.

وإذا كان حكم الإخوان أطاح بها من المحكمة الدستورية، فالسؤال هو: لماذا لم تعد إليها بعد أن تخلصت هى وغيرها منهم؟

كان سهلًا أن يقوم النظام الجديد بإلغاء ما قرره نظام الجماعة، واللجنة التي تشكلت عام 2014 (لجنة الخمسين) لتعديل دستور 2012، أعضاؤها كانوا قريبين منها، فلماذا لم تُعِد الأمور إلى نصابها دستوريًّا؟ ولماذا المحكمة الدستورية لم تقرر عودتها في القضية التي رفعتها، وهي كانت نائبة لرئيسها، حيث أبقت على الوضع المعدل كما هو؟

هذا قد يشير إلى أن تخفيض عدد قضاة المحكمة ربما لم يكن قرارًا صرفًا منهم، بل كانوا مطية وتابعين ولم يكونوا أصحاب قرار مستقل، ولم تكن لديهم قدرة للحفاظ على الثورة وأهدافها، ولم يسمحوا لآخرين بمشاركتهم الحكم، ولم يحققوا التوافق الوطني للعبور بمركب يناير والدولة والشعب إلى بر الأمان.

أين كانت السيدة تهاني المتحدثة المفوّهة من الظهور على جمهورها الذي يتشوق للاستماع إليها؟

لا فضائيات باتت تدعوها لشاشاتها، بينما يظهر عليها من ينادي على شيماء، ولا صحف تتصل بها لتحاورها على صفحاتها، ولا ندوات تضعها على قائمتها، ولا وجود لها في نقابة المحامين -بيتها الأصيل- بمحاضرات أو مشاركات فكرية، ولا إطلالات لها في المجال العام حتى نُسيت أو كادت تُنسى، فقد كانت تظهر كثيرًا، خلال فترة ما قبل يونيو 2013، وما بعد هذا التاريخ أيضًا، في كل وسائل الإعلام، وتتكلم كما تشاء، ثم تدريجيًّا باتت في قائمة الانتظار الطويل، ومعها غيرها من تيارات مختلفة.

لا شك في أن حضورها وانتقاداتها السابقة جذبت مترددين ومحايدين انضموا إلى جمهور آخر لأجل التعبئة والحشد، ثم في الأخير وبعد استعادة الثورة من المتهمين بسرقتها، كانت المستشارة كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.

رحمة الله علينا وعليها وعلى الأحياء والأموات.

المصدر : الجزيرة مباشر