جماعة إسكندر باشا الصوفية ودورها السياسي في تركيا

الحضرة الصوفية

خلافا لحالة الغياب القسري للطرق الصوفية في المجتمعات العربية، وتفضيل أتباعها عمليا الانكفاء على الذات الذي فرضته على نفسها، درءًا لمخاطرالتصادم مع السلطات، حتى إنها نأت بنفسها عن التفاعل مع ما تواجهه شعوب المنطقة من تطورات وأحداث، فإن الوضع في تركيا ظل مختلفا عن هذا النهج كل الاختلاف.

فقد كانت الطرق الصوفية ولا تزال من أهم الروافد السياسية والاجتماعية المؤثرة في المجتمع التركي، بل إنها قادت مسيرته في أوقات المحن والشدائد التي تعرض لها، وأخذت بيده نحو الطريق الصحيح، وحملت على عاتقها مهمة الحفاظ على القيم الدينية والموروثات الاجتماعية والثقافية في مواجهة حملات التغريب، وتحويل البوصلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ حيث قامت رغما عن رغبة السلطة الحاكمة آنذاك بفتح المعاهد التعليمية التي تولت مهمة تحفيظ القرآن وشرح معانيه، كما تصدت للرد على كافة الأكاذيب والادعاءات التي سعت للطعن في الإسلام، والحطّ من قدرته على مواجهة مشاكل الإنسان في العصر الحديث، وأوضحت بالدلائل القاطعة أنه دين يصلح لكل زمان ومكان، مفندة بقوة واقتداركافة تلك الأكاذيب والادعاءات، وواجه أعضاؤها في سبيل ذلك عمليات الاعتقال والمحاكمة والنفي من البلاد.

وتعد الطريقة النقشبندية من أكثر الطرق الصوفية التي شاعت وانتشرت بين الأتراك، خصوصا في أوساط النخب التركية، إذ ينتمي إليها أساتذة الجامعات، وكبار موظفي الدولة، والتكنوقراط، إلى جانب رؤساء العديد من الأحزاب، ورجال الأعمال، والمثقفين.

النقشبندية واختلافها عن باقي الطرق الصوفية

وتنسب الطريقة النقشبندية إلى مؤسسها محمد بهاء الدين النقشبندي، الذي عاش في بخارى بين عامي 1317 و1389م، وحمل الطريقة عنه إلى الأناضول أحد أتباعه -وهو عبد الله السماوي- في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، لتنتشر بسرعة كبيرة في مختلف أنحاء تركيا لبساطتها وبُعدها عن التعقيد، وميلها إلى التسامح، بل تشجيعها على الاندماج المجتمعي، والتعاطي مع كافة الإثنيات والعرقيات، واعتمادها على المذهب الحنفي الذي يعتمد منهج أهل الرأي والعقل في فهم القرآن والسنة وتأويل نصوصهما، مستندة في ذلك على علم الكلام والبرهان الذي تمثله “الماتريدية” التي تُنسب إلى أبي منصور محمد الماتريدي.

وترى النقشبندية نفسها مختلفة عن باقي الطرق الصوفية الأخرى، إذ تعود لديها سلسلة الانتقال الروحي من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق خلافا لباقي الطرق الصوفية التي تعود سلسلة الانتقال الروحي لديها من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمه على بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقد انبثق عن الطريقة النقشبندية عدد من الجماعات والطرق، مثل جماعة زاوية “إسكندر باشا” التي أسسها أحمد سليمان الأرودي الذي انتقل من الأناضول إلى إسطنبول وبدأ الترويج للطريقة النقشبندية عبر أحمد ضياء الكمشخناوي الذي أسس لاحقا ما أصبح يعرف بزاوية “إسكندر باشا”، وهي الزاوية التي أصبح لها تأثير مباشر في الحياة السياسية للأتراك منذ القرن الماضي حتى الآن، وذلك على يد محمد زاهد كوتكو المتوفى سنة 1880، الذي خلف الكمشخناوي ودعا إلى تأسيس تيار إسلامي سياسي، من خلال حثه أتباعه ومريديه على الانضمام إلى مراكز التأثير في الدولة، والعمل بها، والتدرج الوظيفي فيها، وكان من بين هؤلاء الرئيس الراحل تورغوت أوزال، والبروفسور نجم الدين أربكان، الذي أسس أول حزب إسلامي سياسي في عام 1970، وأطلق عليه اسم “النظام الوطني”، وكان معظم أعضائه من المنتمين للطريقة النقشبندية.

 أربكان الصوفي الذي أسس أول حزب إسلامي في تركيا

ولذلك يمكن اعتبار أن الراحل نجم الدين أربكان كان يمثل في تلك المرحلة همزة الوصل بين الطريقة الصوفية النقشبندية وبين السلطة وعالم السياسة في تركيا، واستمرت منذ ذلك الوقت عملية التواصل والانخراط الدائم بين النقشبندية والأحزاب ذات التوجه الإسلامي التي أسسها أربكان، حيث دعمت في البداية مشروعه السياسي الأول المتمثل في حزب “النظام الوطني” وبعد حظره من جانب الدولة دعمت حزبه “السلامة الوطني” الذي لعب دورا مهما خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، حيث شارك في العديد من الحكومات الائتلافية التي حكمت تركيا بين أعوام 1973 و1979، الأمر الذي كان له تأثير كبير في ازدهار التيار الإسلامي على الساحة السياسية التركية.

وبعد انقلاب عام 1980 تم حظر حزب ” السلامة الوطني”، وفي عام 1983 انبثق عن جماعة زاوية “إسكندر باشا” النقشبندية “حزب الرفاه” الذي استطاع الفوز بالانتخابات المحلية عام 1994، وفي ديسمبر 1995 اكتسح الحزب الانتخابات البرلمانية وفاز بـ158 مقعدا من مقاعد البرلمان، فشكّل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم بزعامة طانسو تشيلر، وتولى نجم الدين أربكان منصب رئيس الوزراء وتولت طانسو تشيلر منصب وزير الخارجية إلا أن العسكر الذين لم يشعروا بالارتياح لممارساته في السلطة قاموا بالضغط عليه وقدموا له عدة مطالب عاجلة لما وصفوه بمكافحة الرجعية التي تفشت في البلاد، ومظاهر النشاط الإسلامي بكافة أنواعه وأشكاله، حتى ما يتعلق منها بالعبادات أو التعليم، فما كان من أربكان إلا تقديم استقالته منعًا لتطور الأمور وحدوث انقلاب عسكري.

وعقب ذلك رفع المدعي العام دعوى قضائية ضد كل من حزب الرفاه ومؤسسة نجم الدين أربكان بتهمة انتهاك علمانية دستور البلاد، وهي الدعوى التي استمرت على مدى عامين كاملين لتصدر المحكمة حكمها عام 1998 بحظر الحزب، ومنع أربكان من مزاولة العمل السياسي مدة خمس سنوات.

لكن أربكان لم يستسلم لقرار الحظر الصادر عليه، بل سعى إلى تأسيس حزب جديد تحت اسم “الفضيلة” مكلِّفًا رجائي كوتان أحد أقرب مساعديه إليه بمهمة قيادته العلنية في حين تولى هو شخصيا إدارته فعليا، ولقي الحزب كالعادة دعم جماعة “إسكندر باشا” النقشبندية التي دفعت بالكثير من الوجوه الجديدة إلى الاندماج في الحزب الجديد إلى جانب القيادات القديمة، بهدف تقويته وتثبيت أقدامه على الساحة السياسية في مواجهة تعنّت المؤسسة العسكرية.

 جماعة إسكندر باشا وحزب العدالة والتنمية

لم يهنأ الحزب الجديد بتأسيسه، حيث بدأت ملاحقته قضائيا، وتم حظره فعليا عام 2001، ليظهر بعد ذلك على الساحة السياسية التركية حزبان إسلاميان جديدان، أحدهما هو حزب العدالة والتنمية الذي قاده كل من عبد الله غول ورجب طيب أردوغان -وهما من جماعة زاوية “إسكندر باشا”- بعد اختلافهما مع أربكان حول طريقة قيادته للحزب والتيار الإسلامي عموما، ورفضه مواجهة بطش المؤسسة العسكرية بالأحزاب والتيارات الإسلامية، آخذَين معهما شريحة كبيرة من قيادات حزب الفضيلة والحرس القديم إلى جانب صفوة تيار الشباب.

أما الحزب الثاني فهو حزب السعادة الذي تم تأسيسه في 2002، والذي احتفظ ببقية الحرس القديم، وهم الذين دانوا بالولاء التام لشخص نجم الدين أربكان، وهنا وجدت الطريقة الصوفية نفسها في مفترق طرق، إلا أنها سرعان ما حسمت موقفها وقررت تقديم الدعم اللازم لبقاء حزب أربكان داخل المنظومة السياسية التركية وفاءً له وإكرامًا لتاريخه، في حين قدمت دعمها الأكبر للعدالة والتنمية الذي نجح سريعا في اختراق الصفوف بفضل هذا الدعم، واستطاع في فترة وجيزة من تأسيسه خوض الانتخابات المحلية وتحقيق فوز ساحق فيها.

النقشبندية والانتقال من السياسة إلى عالم المال والاستثمار

ومن الجماعات التي انبثقت عن الطريقة النقشبندية، وأصبح لها حضور قوي على الساحة السياسية التركية، جماعة “المنزل”، وتعود إلى مؤسسها الشيخ محمد راشد أرول. وقد بدا ظهورها قويا عقب الانقلاب العسكري عام 1980، حيث كثفت من نشاطها وبرز أعضاؤها بوصفهم الجماعة الدينية الداعمة للدولة، الأمر الذي ساهم في انتشارها بين أبناء المحافظات خاصة الغربية، ويعتبر الراحل محسن يازجي أوغلو مؤسس حزب “الوحدة الوطنية” أحد أبرز أبنائها الأوفياء وأكثرهم شهرة. ودعم هذا الحزبُ حزبَ العدالة والتنمية، وشاركه بوزيرَين في أول حكومة يشكلها عام 2003.

وفي عام 1990 قررت الطريقة النقشبندية الولوج إلى عالم المال والاستثمار، وتشكيل كيان اقتصادي ينافس جمعية رجال الأعمال الأتراك، المعروفة اختصارا باسم “توسياد”، ليتم الإعلان عن إنشاء جمعية رجال الأعمال المستقلين التي أصبحت تعرف باسم “موصياد” بمشاركة 1500 عضو من رجال الأعمال ذوي التوجة الصوفي، وهي الجمعية التي أصبح لها وجود قوي على الساحة السياسية والاقتصادية التركية، وتعد من أهم الروافد الاقتصادية للدولة التركية حاليًّا.

المصدر : الجزيرة مباشر