ألوان الحركة الاسلامية مع النظام الدولي

الحركة الإسلامية الواسعة ليست لوناً واحداً في تعاملها مع النظام الدولي، فقد ظهرت نماذج وأشكال متعددة من قِبل الحركات والتيارات الإسلامية في التعامل معه يتراوح بين الرفض والقبول والتعايش.

من داعش للإخوان

النموذج الأول: “داعش” وهو أشد الأطروحات تمردا على النظام الدولي عبر رفضه نظريا وعمليا والسعي فورا لمواجهته بكل الطرق وعلى كل الميادين ومن خلال كيان سياسي بأرض وشعب وسلطة. وهذا هو (الطرح الداعشي) التي صنعت كيانا له سلطة حقيقية على الأرض بمؤسسات عسكرية ومدنية كاملة خارج نطاق النظام الدولي، بدأت بتسميته دولة العراق والشام ثم دولة الخلافة..
هذا الكيان واجه العالم كله وواجهه العالم كله، وحمل أتباعه قناعة راسخة أنهم يستطيعون فتح الفتوح وتوسيع سلطة هذا الكيان حتى يتحول لخلافة حقيقية.. ومهما كانت تبريراتهم في مواجهة العالم فقد ثبت بعد نهاية التجربة أنه برنامج غير عملي وأن النظام الدولي أقوى بكثير مما يتصورون.. ويعتقد المنتمون لهذا الفكر أن الإخلاص والصدق كافيان لجلب الدعم الرباني ضد التعاون العالمي عليهم.. وينسون أن الإسلام دين واقعي لا تُخرق فيه السنن الكونية، وأنهم ليسوا أكثر إخلاصا من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أُمر بالتدرج في مواجهة الأعداء إلى أن صارت قدراته كافية للمواجهة.

النموذج الثاني: “القاعدة” والتي لها فلسفة مختلفة عن داعش في التعامل مع النظام الدولي.. ترى القاعدة -على لسان منظرها أيمن الظواهري- أن مواجهة النظام الدولي بكيان سياسي محدد أمر غير واقعي ويجب ألّا تسعى له القاعدة إلا بعد تفكيك النظام الدولي، وأن تفكيك النظام هو الهدف الأول، وتبين هذا الأمر بشكل واضح في رسالة الظواهري للزرقاوي التي يرفض فيها فكرة الدولة الإسلامية، وإلى أن يتم التفكيك تبقى القاعدة خلف الأفق في عدة بلدان على شكل تجمعات تتفاوت في حجمها ودرجة ظهورها واستعراض قوتها، وتظن القاعدة أنها تستطيع تفكيك النظام الدولي بنفسها من خلال استهداف قيادته “أمريكا” مباشرة بخطة متكاملة تؤدي إلى تحييدها أو إشغالها بنفسها، وحشد العالم الإسلامي ضد أمريكا.

النموذج الثالث: “طالبان” التي تحصر برنامجها عمليا داخل حدود أفغانستان لكنها لا تتحدث في أدبياتها بما يدل على اعترافها بهذه الحدود فضلا عن أنها تؤوي مقاتلي القاعدة الذين لا يعترفون بهذه الحدود، بهذا كأن طالبان تتعامل مع قضية القُطرية تعامل الهدنة المفتوحة كواقع مؤقت إلى أمد غير مسمى، فتقبلها عمليا لكن لا تقر بها مبدئيا، أما من حيث هوية رعاياها فإن مشروع طالبان داخل أفغانستان لا يعترف بأن الحدود تمثل الهوية ويضع الإسلام فوق الوطنية، بل ربما لا ينظر للوطنية كهوية إلا من الجانب العملي، ولكن في نفس الوقت لولا التهادن مع القُطرية وواقعيتها في التعامل مع الظروف المحلية والعالمية لما صمدت كل هذه المدة حتى ربحت معركتها العسكرية.

النموذج الرابع: “الجماعات التي تقبل بالدولة (القطرية/ الوطنية)” كأحد أسس النظام الدولي ولا تشكك مطلقا فيها وتقبل بها مبدأ ثابتا وليس مسايرة مؤقتة للواقع، لكنها تصر على مرجعية الدين داخل (الدولة القطرية/ الوطنية).. هذه المرجعية المحسومة تقتضي ألّا تكون هيمنة الإسلام وتطبيق الشريعة مسألة مطروحة للاختيار، فليس من حق أحد أن يخرج عن سلطان الشرع ولا أن يضع الدين تحت الاختبار، وهذا هو طرح الإخوان المسلمين في العقود الأولى بعد نشأتهم إلى أن تخلوا عنه بعد أن دخلوا الانتخابات رسميا أيام حسني مبارك، وهو كذلك طرح قيادات حزبية لها برامج سياسية مثل الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل المحامي.. لكن الذين يقبلون بالدولة (القطرية/ الوطنية) قناعة ومبدأً ويطرحون هيمنة الدين بشكل كامل سوف يجدون أنفسهم أمام تحديات كبيرة في تعريف الهوية وما يترتب عليها خاصة إذا كان في البلد أقليات غير مسلمة، كما أنهم سوف يقعون في اختبار التعامل مع المطلوبين عالميا لأن ظاهر الإسلام يلزمهم بإيوائهم والنظام العالمي يلزم بتسليمهم، وهذا ما دفعت ثمنه طالبان بمواجهة النظام الدولي وتحملت تبعات هذه المواجهة لكنها كانت مستعدة لذلك وحسبت حسابه.

النموذج الخامس: “برنامج الإخوان المسلمين الحالي” الذي لا يشكك أبداً بـ (الدولة القُطرية/ الوطنية) ويقبل بالهوية الوطنية ويعتبر أمرها محسوما.. أما هيمنة الشرع داخل الدولة فلا يشكك في وجوبه لكنه يفضل من الناحية العملية ترك موضوع “الشريعة” لاختيار الشعب مراهنا على أن الشعب سيختار الشريعة ومن ثم يمكن صياغة دستور يثبّت الشريعة كمرجع دائم للدولة، وأنه ليس من المتوقع من الشعوب المسلمة أن تتردد في تثبيت مرجعية الشريعة.. ومعظم التيارات التي تتبنى هذا الطرح تعتقد أنها يجب أن تنخرط في التعاون العالمي ضد الجماعات المناهضة للنظام الدولي.. ويتعرض هذا التيار لانتقاد من المتشبثين بمعارضة النظام الدولي الذين يعتبرون الطرح الذرائعي خذلانا للدين ويجب على المسلم أن لا يكون خجولا من دينه، كما لم تكن الثورات الفرنسية والروسية والخمينية خجولة بفرض فكرها على الشعوب.. وفي المقابل يتعرض هذا التيار لانتقاد من التيارات العلمانية التي تعتبر هذا الطرح غشًا وخداعًا للشعوب على طريقة هتلر الذي وصل للحكم بطريقة ديمقراطية ثم فرض النازية فرضًا.

النموذج السادس: “الجماعات التي تقبل بالنظام الدولي قناعة كاملة بكل تفاصيله سواء قضية الدولة القُطرية والهوية الوطنية أو قضية ترك موضوع الشريعة لاختيار الشعب”، وهذه الجماعات لا تعتبر ترك اختيار الشعب للشريعة حيلة ذرائعية لضمان تحكيم الشريعة بل ترى مبدئيا أن رأي الشعب فوق الشريعة ولا ينبغي النص في المستقبل على دستور يلزم الدولة بهيمنة الشريعة.. بل إن مفهوم الشريعة عند هذه التيارات لا يعني التطبيق الشامل بل يعني تطبيق ما يمكن تطبيقه من بعض القوانين أو القيم الاجتماعية، بعض هذه التيارات تصر أن هذا هو أفضل طرح للمشروع الإسلامي مثل حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفي منشورات حزب النهضة وكتابات الغنوشي ما يدل على أن القناعة بذلك ليست عملية فقط بل مؤصلة في أدبيات معتبرة لهذا التيار.

النموذج السابع: “ويشمل عدد من النشطاء والمفكرين والكتاب الذين يرون أنه لا بد من مواجهة النظام العالمي بكل مستوياته وبالقوة لكنهم لا يقبلون أساليب داعش والقاعدة”.. المشكلة أنهم لا يستطيعون تجاوز الطرح الفكري الفردي؛ لأن أي تشكّل لهذا الفكر في كيان حزبي أو جماعة معلنة يعني القضاء عليه من قبل النظام الدولي.

تحييد أمريكا

أخيراً يعتبر البعض أن القدرة على التعايش مع النظام الدولي نجاح في حد ذاته، وبهذا المقياس لا يدخل في دائرة النجاح إلا تجربة أردوغان، ومنظرو حزب العدالة التركي يعتبرون أي مساهمة في إعادة المجتمع التركي للإسلام بعد قرن من أتاتورك إنجازا كبيرا.

ربما يستمر التيار الذي يقبل بالنظام الدولي بكل تفاصيله وقد ينجح في تحسين ظروف المسلمين والعمل الإسلامي وإعادة القيم الدينية للمجتمع الإسلامي، لكن من المستبعد أن يقدم نجاحا سياسيا لتمكين الدين من السلطة إلا بصدام حتمي مع النظام الدولي.. ويكاد يستحيل أن يكون للإسلام تمكين دون خلخلة في النظام الدولي سواء عالميا أو إقليميا، وهذه الخلخلة لا تحتاج انهيار النظام بالكامل بل يكفي تحييد أمريكا حتى تفتح نافذة تاريخية تقتحم من خلالها كل هذه التيارات ميدان الإنجاز السياسي وتفرض الدين مرجعية، وربما تتجاوز الحدود.. ويبدو أن الغرب خلال العقود الأخيرة اعتمد على أمريكا إلى درجة جعلته محتاجا لها بشكل حيوي أدى به لأن يكون عاجزا عن ملء فراغها كقيادة إلى مدة طويلة، هذا العجز عند الغرب بعد تحييد أمريكا هو الذي يفتح النافذة التاريخية التي يفترض أن يستغلها الإسلام السياسي.

المصدر : الجزيرة مباشر