نجيب محفوظ كما أعرفه

كي تعرف كاتباً ما معرفة عميقة وحقيقية يجب أن تطّلع على أعماله، وأن تكون قارئاً نموذجياً تستطيع الدّخول إلى أعماق الشّخصيات كي تنتزع منها مستويات السّرد فتفرز ما هو حقيقي عمّا هو متخيّل وتدرك ما يمس الكاتب كإنسان من لحم ودم امتزج بشخصياته ليقنعنا بواقعيتها.

في أعماق كلّ شخصية يتناولها الكاتب جزء منه سواء عاشه أو تخيّله أو أحسّ به، وقد يحتاج القارئ غالباً إلى مساعدة الكاتب ليعرف ما هو حقيقي في النّص الرّوائي من خلال حوارات أجريت معه وتصريحات قالها في مجالس صحبته. وقد عُرف عن نجيب محفوظ صمته في حضرة الآخرين وإنصاته إليهم وهي ملكة يتسم بها الكاتب الشغوف بالحياة والنّاس والذي يعتمد في معظم ما ينتجه على أحاديثهم وقصصهم. مع هذا لم يخلُ الأمر من تصريحات صريحة لنجيب محفوظ تناولت حياته وعلاقته بزوجته وأصدقائه.

ما لا يعرفه سوى قلة أنّ نجيب محفوظ كان عازفاً ممتازاً على آلة القانون، بل كان عازفاً ساحراً يعزف بحرفية لا ينقصها العمق في الإحساس والتحليق مع اللحن ما يقرب من حالة الوجد الصّوفي.. وهذا الجانب من شخصية نجيب محفوظ الذي ربحه الأدب وخسره الفن يكاد لا يذكر حين يتناول النّقاد حياته حتّى الشّخصية منها.

لا شكّ أنّ الكاتب الروائي تحديداً هو موسوعة في المعرفة لأنّه يتحدّث بلسان شخصيات تتنوع مهنها ومواهبها، فهو مهندس وطبيب ومحامٍ وفلاح وصانع وصائغ وسائق وحتّى حفّار قبور! وعليه أن يكون على معرفة شاملة بكلّ تلك المهن وطبيعة حياة أصحابها.. وليس أسهلها الحديث عن المثقف أو الشّاعر أو الكاتب فهؤلاء يحتاجون لجهد أكبر بما يمتلكون من شخصيات معقدة تحتاج إلى مستويات من المعرفة في علم النّفس.

أمّا أن يكون الكاتب فناناً تشكيلياً أو شاعراً أو مسرحياً أو حتّى ممثلاً فذلك أمر يكاد يكون من جزئيات حياة الرّوائي. أمّا أن يكون موسيقياً فهذا الأمر صعب لكنّه غير مستحيل فمن يستمع لعزف نجيب محفوظ على القانون يعتقد أنّه أمام عازف متمرس درس وعرف وأتقن ما يفعله.

خان الخليلي

ما أعرفه عن نجيب محفوظ مرتبط بالأثر الذي تركته أعماله الرّوائية في نفسي، فهو كمؤسس لنوع من الأدب الذي اكتسح السّاحة الأدبية بداية السّتينيات والسّبعينيات من القرن الماضي كان مقروءًا ومعروفاً لكلّ قرّاء اللغة العربية في مشارق الوطن ومغاربه.

أوّل عمل روائي قرأته لنجيب محفوظ وأنا في العاشرة كان رواية “خان الخليلي” التي شكّلت نموذجاً للأدب الواقعي في ذهني وكنت أقيس عليها كلّ رواية أقرؤها.. فأصبحت بالنّسبة لي الترمومتر الذي يحدد إعجابي بعمل أو عدم الإعجاب به.

كان هذا قبل أن تصدمني السّينما بشخصيات خان الخليلي، فلم يعد رشدي كما في المخيلة ولا نوال تلك الشّخصية التي رافقتني سنوات طويلة ولا المعلم نونو الذي كان النّموذج الذّهني للشّخصية الكوميدية. اكتشفت حينها كم تشوه السّينما مخيلة القارئ والكاتب معاً. فما رسمه نجيب محفوظ على الورق لم يستطع الكوميديان “محمد رضا” نقله إلى الشّاشة فقد كانت ملامحه الضّاحكة الطّيبة وتعابير وجهه غير منسجمة مع الشّخصية التي قدّمها نجيب محفوظ لقرائه داخل الرّواية. كنت أسمع عبارة “ملعون أبو الدّنيا” بإيقاع ونبرة مختلفة وأنا أقرأ الرّواية، انقلبت تماماً حينما سمعتها في الفيلم ولم يكن حظي مع “اللص والكلاب” أفضل، فقد ترك الفيلم أثراً سيئاً في نفسي لابتعاد ممثليه في تجسيدهم شخصيات الرّواية عن روح الشّخصيات الأصلية داخل العمل.

ببساطة، الممثلون استطاعوا إبعاد نجيب محفوظ عن الشّخصيات التي كتبها. الجزء الخفي الذي وضع فيه روحه لم تنقله السّينما وإنّما اكتفت بالرّسم الخارجي للشّخصيات كما رآها نجيب محفوظ في الحياة.

ليس صعباً أن تنقل أحداث حياة أشخاص كما سمعتها منهم على الورق وتصنع منها عملاً أدبياً، الصّعب أن تضيف إلى تلك الشّخصيات من روحك ما يجعلها ترتقي إلى عالم الرّواية بعيداً عن صورتها في الواقع. وهذا الجزء تحديداً هو الذي قتلته السّينما حين نقلت الرّوايات إلى مشاهد تمثيلية وجرّدتها من عملية التّلقي التي يشارك فيها القارئ أيضاً كاتبه في رسم حيوات الشّخصيات وملء الفراغات التي يتركها الكاتب عمداً أو سهواً. تلك الفراغات التي تعيد تشكيل النّص وتضفي عليه ألقاً يدوم عمراً بأكمله تنسفه السّينما خلال ساعة تتحوّل فيها رؤيا الكاتب إلى رؤيا المنتج والمخرج وكاتب السّيناريو والممثلين وحتّى الكادر الذي يقبع خلف الكاميرا.

الشهرة

لا شكّ أنّ شهرة نجيب محفوظ لم تأتِ فقط من أعماله الرّوائية، بل من الأعمال التي حوّلتها السّينما إلى أفلام أو من الأعمال الدّرامية مثل “حديث الصّباح والمساء”. تلك الشّهرة التي حملت جانباً إيجابياً جعلت نجيب محفوظ مقروءًا حتّى اليوم هي نفسها التي حرفت بوصلة القراءة عن وجهتها وأنتجت نوعية جديدة من القراءة لأعمال الكاتب تحت تأثير القراءة البصرية الدّرامية.

نجيب محفوظ الذي عرفته لم يكن موظفاً من المتوسط النزيه في المجتمع كما يشاع عنه.. بل كان فناناً موسيقياً ومهندساً وطبيباً وشاعراً وكوميدياناً وكان كلّ هؤلاء الذين كتب عنهم في أعماله الرّوائية والدّرامية.

المصدر : الجزيرة مباشر