هل يثأر الأمريكيون من فرنسا في تونس؟!

الأمريكيون يدخلون المشهد التونسي بخطة تنهي وجود وهم الدولة الاجتماعية التي ربّت مواطنا متواكلا

ماكرون يلقي خطاب العام الجديد

نجذب الكلام من أذنيه ونتعمد الخلط بين الأماني والتحليل، لنرى الأمريكيين يثأرون للزعيم فرحات حشاد الذي اغتالته يد المخابرات الفرنسية الحمراء، وفتحت باغتياله الطريق واسعة لـ”بورقيبة” فيبني نظامه ويصنع البلد على هوى الفرنسيين. ليس لدينا معطيات دقيقة مثلما ليس لمن يعترض على قولنا معلومات وإنما جميعنا نحاول إعادة ترتيب الوقائع التي ترتبها رغمًا عنّا قوى خارجية، فتحدد بها مصائر من لم يرتق في وطنيته إلى ترتيب أمره بنفسه.

يوجد ثأر تاريخي للولايات المتحدة من فرنسا، سكتت عنه مصادر التاريخ الذي كتبه مؤرخو السلطة. لقد سعى حشاد لترتيب مستقبل تونس بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الحلف الأمريكي، وأنفق في ذلك جهدا، وكان ينعت أيام النضال بالخط الأنجلوسكسوني. وقبل أن ينجح في فرض خياره الاستراتيجي امتدت إليه يد الغدر الفرنسية، فإذا تونس بزعيم واحد يقودها في الطريق الذي خطه لها محتلها القديم. ولا يزال يحاول أن يحدد مستقبلها رغم الثورة التي أعادت طرح مسألة الاستقلال عن المحتل. هذا الإطار الذي أكتب داخله هذه الورقة، فما المستجدات لنعود إليه؟

تونس منطقة صراع قوى عظمى

الخطة الأمريكية لأفريقيا لاعتراض النفوذ الصيني وأحلافه ليست خطة افتراضية، فهناك نصوص كثيرة صدرت عن مراكز استراتيجية تثبتها ولا نحتاج إلى معرفة تفاصيلها التنفيذية لنقرّ بها. في هذه الخطة تبدو بلدان شمال أفريقيا نقطة ارتكاز جغرافي وسياسي لا بد من وضعها تحت النفوذ الأمريكي لتكون مدخلا لخطة تدوم طويلا.

الارتكاز في شمال أفريقيا يعني الاصطدام بالنفوذ الفرنسي فيها، فالمنطقة تعيش عمليا احتلالا فرنسيا دائما سبق له أن قطع الطريق على الأمريكيين، رغم أنهم مَن حرر المنطقة مِن النازية في معارك لا تزال تشهد عليها مقابر جنودها (يبدو أنه قد آن أوان قبض ثمن تلك الأرواح).

التحالف الصيني الفرنسي غير خافٍ على كل قارئ للوضع الدولي الراهن منذ النهضة الصينية الحديثة، والحرب في ليبيا والتدخل الفرنسي فيها أكد وجود هذا التحالف، إضافة إلى صراعات في مناطق أخرى اصطدمت فيها الخطط الأمريكية بالوجود الفرنسي المهيمن على شمال أفريقيا تقتضي من هذه الزاوية “تطهير” المنطقة من النفوذ الفرنسي الاحتلالي.

هذا “التطهير” لا يحتاج غزوا عسكريا كلاسيكيا بل يكفي قطع الأذرع التنفيذية (المحلية) في الداخل. في مقدمة الأذرع الفرنسية تظهر النقابة التونسية هي الذراع الأقوى، فهي التي ورثت بورقيبة الفرنسي، وهي التي منعت ثورة تونس من النجاة من براثن المحتل الفرنسي، وسخّرت كل الثورة لخدمة الأجندة الفرنسية. وفي عالم يسارع إلى ليبرالية مطلقة تظهر النقابة لقمة في زور التقدم على الطريق الليبرالي بخطاب اجتماعي لا يملك أسباب البقاء في دولة تابعة وفاشلة.

يدخل الأمريكيون المشهد التونسي بخطة ليبرالية -معتمدين على البنك الدولي- تنهي وجود وهم الدولة الاجتماعية التي ربّت مواطنا متواكلا يعيش على عطايا دولة مفلسة، فيجدون قيس سعيّد يقود البلد من فشل ثابت إلى فشل كاسر، فيقطعون عنه المَدد إلا بشروطهم. ويبدو أن الرجل خضع أخيرا لمنطق السياسة الدولية وقدّم شروط الولاء مقابل البقاء، وسيدفع ثمن تقبيل كتف الرئيس الفرنسي الذي لم ينجده في أزمته رغم سعيه الحثيث لتدبير منافع للشركات الفرنسية في ليبيا فضحها الليبيون الذين لم يخضعوا أبدا لفرنسا وأطروحاتها الفكرية وخططها السياسية. الثابت أن الفرنسيين كقوة احتلال كلاسيكية فقدت قدرتها على مساعدة أذرعها المحلية كما كان الأمر مع بورقيبة وبن علي (أرقام الاقتصاد الدولي ولست خبيرا بها تكشف أن فرنسا لم تعد شيئا مذكورا في الساحة الاقتصادية الدولية).

الرئاسة مقابل البقاء

لقد وضع الأمريكيون شروطهم للرئاسة مقابل تنفيذ برنامج ليبرالي لا تعترض عليه النقابة الفرنسية بخطاب السيادة الوطنية الكاذب، وقد قبل -في ما نرى- الشروط، فهو أضعف من أن يعترض على ذلك، فخطاب السيادة عنده غطاء لفقر فكره وضعف شخصيته (مثل خطابه عن تجريم التطبيع الذي صار نكتة سخيفة).

البرنامج الليبرالي يقتضي تفكيك ما تبقى من المؤسسات العمومية المفلسة وتخفيف وزن الرواتب العمومية على الموازنة وفتح الطريق للاستثمار دون نقابات معطلة، وترجمة ذلك عمليا تحرير الاقتصاد من نفوذ النقابة، وترجمته سياسيا واستراتيجيا قطع ذراع النقابة الفرنسية الهوى أو أداتها المحلية للهيمنة. أما بقية الفاعلين السياسيين وفي مقدمتهم حزب النهضة الإسلامي فلن يعترض على التحرر من هيمنة فرنسا التي قادت منذ قرنين حربا على الإسلام والمسلمين في كل منطقة دخلتها (ذبحهم بن علي لمصلحة فرنسا). لقد ألقى راشد الغنوشي حجره في البِركة (ليس لدينا اعتراض على بقاء سعيّد رئيسا حتى نهاية مدته بل يمكنه العودة في دورة ثانية إذا شرح برنامجه وقبله الناس).

نستشعر من دون معلومات مخابراتية (لن يحصل عليها غيرنا أيضا) أن الصفقة قد تمت ويجري تنفيذها. إن الرعب الذي استشعرناه في خطاب الأمين العام للنقابة بعد أن علم بشروط الحكومة والثورة الخطابية التي سمعناها على لسان السيد عبّو بدعوته المتكررة إلى تدخل الجيش لقطف رأس سعيّد بعد أن كان وضع له خطة انقلاب 25 يوليو/تموز، كل هذه مؤشرات على أن ما يُسمّى في شمال أفريقيا حزب فرنسا استشعر نهايته ودوره في خدمة المحتل القديم.

قدم الرئيس الجزائري تبّون (تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية توترا كبيرا) لمساعدة قيس سعيّد، فمنحه قرضا لشراء الأدوية المفقودة والقمح الذي يعجز عن تفريغه في الموانئ، وهي مساعدة مفيدة لكنها غير كافية ولن تبلغ مستوى توفير رواتب الأشهر المقبلة، كما أنها تأتي على خلاف ما بلغنا من منع السعودية والإمارات -راعيتَي الردة عن الربيع العربي- من مساعدة المنقلب. ليس معنى هذا أن المنقلب صار زعيما للثورة العربية، فهو أضعف من أن يركب موجة ثورية، لكننا نراها علامة على قبول الدخول تحت سقف الخطة الأمريكية مقابل بقائه حتى آخر مدته.

براقش النقابية الجانية على نفسها

المتأمل في دور النقابة منذ الثورة ومحطات الانتقال الديمقراطي يرى بوضوح أن النقابة قد أفشلت الثورة وأفرغتها من مضامينها الاستقلالية عبر تحويلها إلى حركة مطلبية مجحفة. (المجتمع المدني التونسي نكتة سخيفة) لقد تركز عملها على تحويل مؤسسات الدولة (دون المؤسسات الاقتصادية الخاصة) إلى وسيلة ضغط على كل الحكومات ووضعتها دوما في وضع الاختيار بين الاستسلام للنقابة أو خراب الدولة. وكانت النتيجة السياسية دوما هي استسلام الحكومات وفشل الدولة الذي انتهى دوما بمزيد من الخضوع للمحتل الفرنسي الذي يتحرك سفراؤه بحرية مطلقة إلى حد التدخل في برامج التعليم العمومي وفرض مكانة مطلقة للغة الفرنسية وعدد ساعات تدريسها.

وقفت النقابة مع المنقلب بلا شروط إلا شرط تصفية وجود الإسلام السياسي، وهذا ليس مطلبا تونسيا بل مطلب فرنسي خالص منذ أكثر من نصف قرن، استجاب له بن علي ليحكم كما يشاء، بعدما لبّاه بورقيبة ورجالاته. لم يطع المنقلب النقابة والتيارات الفرانكفونية واليسارية (عمق حزب فرنسا) فخرجت عليه النقابة أخيرا باسم السيادة الوطنية، وأنّى لها أن تقنع أحدا بذلك بعد أن ساندت الانقلاب؟ فليس حزب الإسلام السياسي من قبض جائزة نوبل للسلام.

هل في الليبرالية على المنهاج الأمريكي خير؟ الإجابة تقتضي نقاشا عميقا في الاقتصاد والسياسة قد لا يتسع له المجال هنا ويستحق عودة إلى المسألة، لكن اليقين أن الدولة الاجتماعية التابعة خيار لم يعد ينتج منافع اجتماعية لأحد، خاصة إذا اتخذه المحتل وسيلة لإخضاع الفقراء باسم الكفالة الاجتماعية (وهو غلاف للتواكل على دولة الرعاية بالقروض المجحفة).

إن المرور بصحراء الليبرالية الاقتصادية في مرحلة تأسيس جديدة سيوجع الكثيرين وسيكون له ثمن اجتماعي مكلف وموجع، لكن لنتذكر أن التواكل على الدولة الاجتماعية المزيفة بالرعاية النقابية (بخطاب نقابي سفيه) لم يحمِ الفقراء بل حمى طبقة رأس المال الفاسد قبلهم (نذكّر القاري العربي أن 40 بالمئة من المؤسسات الاقتصادية الخاصة في تونس هي مؤسسات فرنسية أو لديها شركاء فرنسيون).

هل سنعيش حتى نرى تحرر شمال أفريقيا من نفوذ فرنسا؟ لم يعد هذا الاحتمال حلما رومانسيا، بل نحن نستعيد -الآن وهنا- خطة حشاد الأنجلوسكسوني، ونرى الانتقام الليبرالي يكتسح المشهد دون دبابات أمريكية (على المزايدين بخطاب السيادة أن يقارنوا شروط البنك الدولي بشروط نادي باريس الاقتصادية) وسيكون لدينا كفاية من الوقت لنسخر من حزب فرنسا الذي يحدثنا بلسان فرنسي فصيح حديث السيادة الوطنية.

هل نحن بصدد تبرير احتلال جديد برفضنا احتلالا سابقا؟ نحن نتوقع -رغم الأزمة الدستورية التي تغطي الفشل الاقتصادي- أن الخروج من دائرة النفوذ الفرنسي الاقتصادي والسياسي والثقافي خاصّة مكسب كبير وفاتحة طريق مختلفة تمر عبر التفاوض مع التاجر الأمريكي، وتستقل عن القس الكاثوليكي الذي يتخفى وراء قناع لائكي.

حشاد العظيم، إن التاريخ ينتقم لك ويبدأ بكسر النقابة التي رفضت بعد اغتيالك أن ترفع دعوى قضائية دولية على من اغتالك وتبجح بذلك. يا لحكمة التاريخ يا (سي فرحات) وقد ناداك الناس دوما “سي فرحات”.

المصدر : الجزيرة مباشر