أمريكا بين طالبان واليابان

حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان هي أطول الحروب التي خاضتها، حيث استمرت عشرين سنة، وتحالف معها زهاء أربعين دولة، وأنفقت فيها ما يزيد عن تريليوني دولار، وفقدت فيها أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، وذكر الرئيس بايدن في خطابه الذي برر فيه الانسحاب بأن هناك 18 حالة انتحار تحدث يوميا في صفوف العسكريين العائدين من أفغانستان، وحسب الصحف الأمريكية فإن ‏عدد الجنود الذين شاركوا في احتلال ‎أفغانستان على مدار العشرين سنة كانوا حوالي 800 ألف عسكري، ولو طبقنا نسبة الانتحار التي ذكرها بايدين على مجمل العائدين من أفغانستان سنجد جيشا كبيرا من المنتحرين !

من الذي يستطيع أن يقنع من أدمنوا الطواف بالبيت الأبيض

كل هذه الخسائر ذكرت مع الأيام الأولى للانسحاب الأمريكي، وما يحمله قادم الأيام أعظم وأكبر، وهذا ما جعل الأمريكان على كافة مستوياتهم يعترفون بفشلهم في أفغانستان، ومنهم من وصف طريقة الانسحاب بالمذلة والمهينة، وأن طالبان خرجت من الحرب أصلب وأقوى، لكن من الذي يستطيع أن يقنع من أدمنوا الطواف بالبيت الأبيض، أو الذين يرون أمريكا قوة لا تغلب، وأن ما يجري على وجه الأرض من تخطيطها وتدبيرها، فراحوا يبررون ويهرفون بما لا يعرفون، في صورة بائسة كشفت صرعى الغزو الفكري والثقافة الغالبة، ومن تملكتهم عقدة النقص .

ليت الأمر وقف عند هذا الحد بل إن فريقا ممن لا يرى أن طالبان حققت أمرا ذا بال، وينتظر قادم الأيام لتحقق سوداوية نظرته، متمنيا العثار لإخوته، ليثبت صدق نظريته، ومع ذلك يطالبهم بمنتهى التناقض أن يتقاسموا هذا النصر مع من تحالف مع المحتل، أو من كفر بفكرة التحرير، وأصبح الدولة العميقة وجسد النظام الذي يدار برأس الاحتلال وعقليته، وهو نفس ما تطالب به أمريكا وحلفاؤها، وكأن أصحاب هذه الأصوات يريدون أن يحققوا للغرب بالكلام ما فشل في تحقيقه بالسنان، وهذا الاقتراح الماكر أو العبيط تفخيخ للموقف من الداخل، وتضييع لجهود المنتصر الذي بخل البعض عن تهنئتهم علانية بالنصر، ومخالفة لسنن الحرب وقواعد المنتصرين الذين يحكمون البلاد بعد تحريرها وجلاء المحتلين عنها،

بل إن المنتصر يفرض كلمته وشروطه على المنهزمين، وهذا ما فعله الحلفاء سنة 1919 مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدة فرساي التي وقعت في باريس وألزمتِ المعاهدةُ ألمانيا بخسارةِ بعض أراضيها وتقديم تنازلاتٍ إقليميّةٍ واسعةٍ، وتقاسمتِ الدولُ المنتصرةُ الرئيسيةُ مستعمراتِها في إفريقيا والمحيطِ الهادي، وكذلك خسرتِ الدولة العثمانية أراضي شاسعة وتفككت كإمبراطورية عظمى.

أمريكا لم تخرج منتصرة في حرب أفغانستان، والحلفاء يستجدون خروج رعاياهم من طالبان

وفيما يتعلقُ بالقيودِ العسكريةِ على ألمانيا فقد فرضتِ المعاهدةُ ضوابطَ وقيوداً صارمةً جداً على الآلةِ العسكريةِ الألمانيةِ بغيةَ منعِ الألمانِ منْ امتلاك قوة عسكرية، فتم تجريدِ الجيشِ الألمانيّ من السلاحِ الثقيلِ، وإلغاءِ نظامِ التجنيدِ الإلزاميِّ المعمولِ به، والاحتفاظِ بمئةِ ألفِ (100,000) جندي فقط، وألزمت بدفع تعويضاتِ مالية كبيرة.

الأمر نفسه فعلته أمريكا مع اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتدميرها مدينة هيروشيما في 6 أغسطس/آب 1945،بقنبلة يورانيوم تزن أكثر من 4.5 طن، وبعد دقيقة واحدة من إسقاطها قتلت حوالي 66 ألف شخص، وجرحت قرابة 69 ألفا آخرين، ثم ألقت على مدينة ناغازاكي في 9 أغسطس 1945، قنبلة بلوتونيوم، وفي لحظة واحدة قُتل 39 ألفا، وجُرح 25 ألفا من سكان المدينة.

لكن أمريكا لم تخرج منتصرة في حرب أفغانستان، والحلفاء يستجدون خروج رعاياهم من طالبان، ثم إن طبيعة الشعب الأفغاني المعتز بدينه وهويته، الفخور بهزيمة أكبر امبراطوريات الأرض، لم تنل منه الثقافة الغالبة، ولم يصرعه الغزو الحربي ولا الفكري، كما أن طالبان ليست جماعة حركية ولا فكرة تنظيمية، وإنما هي حركة شعبية وطيف واسع من الشعب الأفغاني، انضوى تحت رايته كل من آمن بالتحرر الوطني وعمل على جلاء الاحتلال وسعى لتطبيق الشريعة، وتعليمهم ومنهجهم أقرب إلى نظام التعليم في الأزهر الشريف، ولاشك أن اهتمام العالم كله بما يجري على أرض الأفغان، يؤكد أنه حدث له ما بعده، وسيمثل بداية لعهد جديد، يرفع الله فيه أقوما ويخفض آخرين.

المصدر : الجزيرة مباشر