العلاقات التركية الأفغانية بعد سيطرة طالبان

قوات طالبان في حراسة المطار

ما زالت أفغانستان تتصدر جدول أعمال السياسة العالمية، وتشغل الساسة بعد السقوط الدراماتيكي للعاصمة كابل قبل أيام من إتمام القوات الأمريكية انسحابها من البلد الذي حاربت فيه أطول حروبها على الإطلاق.

على مر التاريخ كانت بلاد الأفغان هي الأرض التي سميت مقبرة الغزاة، هُزم فيها العديد من الامبراطوريات، بدءًا من الإسكندر الأكبر، وبريطانيا العظمى، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وأخيراً الولايات المتحدة الأمريكية.

أفغانستان، التي كانت في حالة حرب ودمار لما يقرب من نصف قرن، لديها اليوم حكومة جديدة مرة أخرى، في الآونة الأخيرة، كانت هناك انقلابات ومحاولات انقلاب وتغييرات سياسية جذرية في العديد من البلدان في قارات مختلفة، لكن لم يكن لأي منها تأثير سياسي بقدر ما كان لسيطرة طالبان على أفغانستان، وبالطبع هناك أسباب شكلت هذا التأثير.

هزيمة ثقيلة للولايات المتحدة

استمرت الإمبراطورية الاستعمارية الغربية في سيطرتها على العالم منذ قرنين من الزمان. حافظت الدول الأوربية على قوتها الاستعمارية وتأثيرها حتى الحرب العالمية الثانية، ثم سلمت دور الهيمنة على العالم إلى الولايات المتحدة، ووفقًا لتصنيف محلل النظم العالمية، عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل والرستاين، تمكنت هذه الإمبراطورية من الاحتفاظ ببعض الاحتكارات: “احتكار القوة، احتكار التمويل، احتكار المعادن الثمينة، احتكار التكنولوجيا”.

على مدار قرنين من الخبرة الاستعمارية والاحتلالية التي لم تقتصر على احتلال الأرض فقط، فقد نجحت الدول الغربية في تربية طبقة مثقفة وحاكمة استعمارية تخدم مصالحها الخاصة في البلدان التي احتلتها أو أثرت بها دون استعمار فعلي، هؤلاء الناس ، الذين يعيشون في إفريقيا وآسيا والهند، دافعوا في كثير من الأحيان عن المصالح الغربية بشكل راديكالي أكثر من أسيادهم، وحتى لو استمر منظرو المؤامرة في القول إن هذه ليست هزيمة من حيث الجوهر، وأن طالبان هي “شكل إدارة” جديد للولايات المتحدة، فستظل الحقيقة هي أن الولايات المتحدة قد هُزمت، وتعرض بايدن و إدارته للتشويه الشديد في المجتمع السياسي الأمريكي، لأنه لم يستطع تنفيذ خطة انسحاب جيدة.

الهوية الدينية لطالبان:

بعد انتهاء الحرب الباردة، حددت الولايات المتحدة عدوًا لنفسها، لكن هوية العدو لم تكن واضحة تمامًا. هذا المفهوم، المسمى “الإرهاب العالمي”، اكتسب مضمونًا فيما بعد وأصبح يطلق عليه “الإرهاب الإسلامي العالمي”.

بعد هجمات 11 سبتمبر، بدأت الولايات المتحدة عملية اصطياد في جميع أنحاء العالم واحتلت العراق وأفغانستان. الخطر الذي في العراق كان “الأسلحة الكيماوية وصدام” ، وفي أفغانستان كان “القاعدة وطالبان”. بعد هذا الاحتلال الجائر، لم يحل السلام في العراق أو أفغانستان مرة أخرى، وانتهى الحال إلى أن تولت حركة طالبان إدارة أفغانستان مرة أخرى بعد صراع طويل استمر عشرين عامًا، فكيف يجب أن يقرأ العالم هذه القضية؟

قراءة واقعية للأحداث:

كل أمة لها تاريخ تستند إليه، وثقافة تعيش فيها، وبعض العناصر الوطنية التي تتكون منها تلك الأمة، الشعب الأفغاني شعب مسلم غالبيته العظمى من السنة، “أحناف وماتريدية”. إدارة طالبان تنتمي في معظمها إلى عرقية البشتون ذات الأغلبية النسبية في أفغانستان.

إذا نظرنا إلى الجذور الدينية لطالبان من منظور تاريخي، فإن الفكرة التي بدأت بفكر الإمام أحمد السرهندي الفاروقي “التجديد” في تشكيل الفهم الديني في شبه القارة الهندية وتطورت مع عبد الله الدهلوي، الذي أثار تنمية الوعي ضد الاستعمار البريطاني، وهي التي شكلت أيضًا أساس ثقافة المدرسة الباكستانية “ديوبند”، حيث نشأت حركة طالبان وقاوم عناصرها الاحتلال السوفيتي ثم الأمريكي لأفغانستان.

يعلم الجميع أن اسم طالبان ينبع من التعليم في المدارس، ويقع أولئك الذين يعلقون على أحداث صعود طالبان في مأزق قراءة الأفكار، والانشغال بأسئلة تفرضها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، بدلاً من واقع الدولة والإدارة الجديدة نفسها.

بالطبع، نحن كمواطنين في بلد مسلم هو تركيا، لدينا عدة تساؤلات:

1- ما هو المنهج الذي سيتم تطبيقه من حيث الفهم الإسلامي في الإدارة، وهل سيكون من الممكن العمل في إطار تصور طالبان واجتهاداتها الدينية؟

2- هل سيستطيعون إدارة المشكلات الصعبة في أفغانستان؟ إذ أن هذا المجتمع الذي حارب لمدة أربعين عامًا لديه عشرات المشاكل المتراكمة.

3- كيف ستتشكل ممارسات السياسة الخارجية والعلاقات مع دول الجيران؟

4- كيف سيقيمون توازناً مع الدول الإسلامية المنقسمة أنفسها إلى محاور متباينة؟

العلاقات التركية الأفغانية:

جمهورية تركيا، والتي تعتبر ما تبقى من آخر امبراطورية حقيقية عاشت على وجه الأرض، هي واحدة من أكثر البلدان نشاطًا في السياسة العالمية اليوم كقوة إقليمية.

على الرغم من وجودهم في أفغانستان مع الناتو، لم يكن الأفغان ينظرون الى الأتراك على أنهم عنصر من عناصر الناتو، كما لم يشعر الجيش التركي هذا في نفسه أيضا.  تعود الخلفية التاريخية والثقافية لتركيا وأفغانستان إلى آلاف السنين، واليوم، تتصرف تركيا كقوة إقليمية منخرطة بشكل مباشر في التطورات في العالم، لم يكن من المتصور أن تركيا التي كانت دولة قومية مسلمة ستتخذ موقفًا مستقلاً في السياسة الخارجية، وأن حلفاءها في الناتو سيسمحون بذلك لا أثناء تأسيسها ولا أثناء الحرب الباردة.

مع الحرب الأهلية السورية، أصبحت تركيا دولة تتخذ قراراتها بنفسها، وتضع مصالح الدولة أولاً، وتتصادم أحيانًا مع حلفائها أثناء سعيها لتطوير سياسة خارجية مستقلة، لكنها في الوقت نفسه لا تفقد قدرتها الدبلوماسية وعلاقاتها الفائقة مع حلفائها.

واجهت تركيا العديد من الصعوبات منذ عام 2013، فقامت تركيا بعرض قوتها الصارمة في الميدان أولاً من أجل نضالها ضد الإرهاب الذي يهددها، ثم موقفها في النقاش حول المساحات الخاصة البحرية في البحر الأبيض المتوسط، ودعم الحكومة الشرعية في ليبيا من أجل نجاحها واستقرار ليبيا، وتقديم دعم متطور يغير مصير الحرب الدائرة بين أذربيجان وأرمينيا، وبذلك تكون تركيا قد عادت إلى مسرح التاريخ مرة أخرى.

تريد تركيا أن تجعل التوسع الذي حققته بقوتها الصارمة مستدامًا من خلال التركيز على ديمقراطية أفضل ودبلوماسية أفضل واقتصاد جيد، وتشهد علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي تعافيًا بعد صعود بايدن، وهناك تطبيع للعلاقات مع مصر والإمارات والسعودية، وتحالف ضمني مع إيطاليا بشأن ليبيا، ويتم الحفاظ على علاقة متوازنة مع روسيا، حتى لو كانت تحصل توترات من وقت لآخر، وبذلك، لن يكون من الخطأ تعريف نهج السياسة الخارجية الجديد لتركيا على أنه “دبلوماسية متعددة الاتجاهات ومتعددة الأطراف”.

أفغانستان الجديدة:

جمعت إدارة طالبان، التي وصلت إلى السلطة اليوم، ثروة من الخبرة من عشرات التجارب التي خاضتها.  يبدو أن الأشخاص الذين التقوا بهم في السجون، وتجربة المكتب السياسي في الدوحة، وحساباتهم الداخلية التي قاموا بها، والخبرة الدبلوماسية والدولية التي اكتسبوها في هذه العملية، قد تنبئ عن اتجاهاتهم لحكم الدولة، لكن تحديد الأولويات والإدارة المتوازنة هي الشرط الأول للاستقرار.

الاقتصاد الذي دمر بعد الحرب، والبنية الاجتماعية المتدهورة، والحالة النفسية التي تعطي شعور بحالة الحرب المستمرة تتطلب إعادة بناء الدولة مرة أخرى. والسؤال هو ما هي الجهود والوسائل التي ستكون الإدارة الأفغانية قادرة بها على بناء مؤسسات الدولة وخلق الكتلة البشرية المثقفة التي ستكون قادرة على القيام بذل لإبقاء الدولة على قيد الحياة؟

هنا يأتي دور تركيا، فقد أنشأ الأتراك العديد من الدول في التاريخ، وجمهورية تركيا، كدولة مسلمة، نجحت في إنشاء وإدارة نظام دولة ليس أدنى من متوسط ​​الدول الغربية، ولديها قوى عاملة مدربة في مجالات عديدة، يمكن أن توفر دعمًا مهمًا في اختصاصات عدة مثل التعليم والتحول الرقمي والمجالات الهندسية واستمرار الأنشطة التعليمية في أفغانستان.

كما أن الجيش التركي هو أحد الجيوش القليلة في العالم القادرة على توفير التدريب، فيمكن أيضًا تقديم التدريبات العسكرية إذا طلبت الإدارة الأفغانية ذلك، كما نفذت تركيا أكبر المشاريع في العالم في مجال استثمارات الدولة، بما يؤهلها لن تقدم نموذجًا ممتازًا لإعادة إعمار أفغانستان.

ومن المعروف التقارب التاريخي بين الأتراك والمسلمين في الهند وباكستان وأفغانستان.  الشعبان التركي والأفغاني شعبين مسلمين يتشاركون نفس المذهب الحنفي الفقهي، كما أن تركيا دولة لا تتغذى على الفوضى وتريد أن تكون مستقرة مع دول المنطقة القريبة، و لها مصلحة مباشرة في أن تتمكن أفغانستان من إدارة شؤونها وخلق الاستقرار، وسيخلق هذا أرضية مهمة للتواصل مع تركيا.

ويبدو أن إدارة طالبان قد ضمنت الأمن في البلاد، لكنها بحاجة إلى تضامن جاد للغاية في مجالات التقنية والتجارة والتعليم والاستثمار، وفي هذا السياق، ينبغي النظر بجدية في دعم تركيا للسلام في أفغانستان وبناء الدولة مرة أخرى.

المصدر : الجزيرة مباشر