في المسألة الكردية!

يُنسب إلى الرئيس التركي التاسع سليمان دميرال، أنه قال: “إذا لم تقم بتضخيم قضية ما ولم تعترف بوجودها فلن تكون”.

لطالما كان هذا المبدأ في الواقع حيلة سياسية ماكرة للتغلب على العديد من القضايا الحقيقية، من خلال غض النظر عنها أو إسقاطها من أجندة الرأي العام. وهذا ما اتسم به الأسلوب السياسي لدميرال.

غير أن هذا الأسلوب الذي يعتمد على تجاهل الأمور أو التظاهر بحلها، يتسبب في تفاقم القضايا المهمة بالفعل لتبدو كجبل يجثم فوق صدر الدولة، بل ربما تزداد تفاقمًا لتصير خطرًا على السلم الاجتماعي.

يبقى الخيار السياسي خيارًا سياسيًّا فحسب، والديمقراطيات الحقيقية تضمن الحرية وحق الدفاع لأي خيار سياسي، طالما أنه لا يهدد سلام المجتمع أو لا ينتهك حقوق وحرية الآخرين. مثلًا، القومية أو عدمها هي مسألة حرية سياسية طالما أنها لم تتحول إلى عنصرية عدوانية.

خطاب الدولة يتجاهل الأكراد

قبل 20 عامًا كانت القضية الكردية في تركيا تمثّل أزمة حقيقية، حيث يتعرض الناس للأذى والإهانة، مقابل عنف ممنهج من قبل الدولة، وكان من المعتاد تجاهل هذه القضية، بل وعدم الاعتراف بوجودها أصلًا، ولم يكن واردا أن يصدر اقتراح من اليمين أو اليسار بمراجعة هذه السياسة.

كان الوضع معقدًا، فلا يمكن لهؤلاء الناس أن يقولوا نحن أكراد، كما كان خطاب الدولة يتجاهل من يتحدث بلغة غير لغة الدولة، بل كانت تعاقب من يتحدث بتلك اللغة أصلًا، وهناك العديد من القصص المشهورة لأشخاص كانوا خلال زيارتهم لأقاربهم في السجون لا يتحدثون بأي كلمة بلغتهم، وبينما كانوا لا يجيدون اللغة الأخرى يضطرون للاكتفاء بمجرد نظرات فقط علها تطفئ نار الحسرة.

باختصار، لا يوجد مجتمع كردي بنظر الدولة، وبالتالي لا توجد إذن ما تسمى قضية كردية. لم يكن أي خطاب/حزب/فرد سياسي يتمكن من تقديم مجرد مقترح لتغيير خطاب الدولة. هذا المناخ السلبي كان مفيدا للغاية، بل مصدر رزق لبعض البؤر التي كانت تتاجر بالقضية الكردية.

حاولت منظمة بي كا كا الإرهابية العثور على أرضية تشرّع العنف والإرهاب، مبررة ذلك بأن السبيل لمناقشة أو حل هذه المشكلة داخل المجال السياسي غير ممكن. فاضطرت الدولة لاستخدام العنف ضد هذا العنف مما أدى إلى تفاقم المشكلة. لدرجة أن سياسات الدولة الخاطئة في ذلك الوقت في مكافحة الإرهاب، تحولت إلى أكبر دعم لمنظمة بي كا كا الإرهابية، وتحولت المشكلةَ إلى أزمة معقدة متعددة الأبعاد. ولم تمثل القضية الكردية أزمة داخلية فحسب، بل رافقتها أبعاد دولية كذلك، جعلت بعض أعداء تركيا يستغلونها كورقة رابحة مهمة.

سياسة العدالة والتنمية

كانت الدولة أمام إرهاب يهدد وحدة البلاد وسلامتها، فضلا عن الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة. وقد كان هناك من يتغذى على ذلك، سواء أمراء الحرب الأثرياء أو المافيات أو البؤر غير القانونية التي كانت تحت سقف الدولة العميقة. لم يعد من الممكن إيجاد حل لما يسمى بالقضية الكردية دون التعامل مع جميع أبعاد القضية، ولأجل إيجاد حل ما كانت الحاجة ماسة لحكومة قوية.

لقد وجدت حكومة العدالة والتنمية في نفسها الجرأة للسير في هذا الطريق. منذ البداية كانت بعيدة عن مفهوم تجاهل الأكراد وهويتهم أو حظر لغتهم وثقافتهم وهويتهم، ومنذ البداية ابتعدت حكومة العدالة والتنمية عن أن تكون مصدرًا للمشكلة.

وحينما كانت تتعاطى مع القضية بهذا النهج، كانت تحل بالفعل جزءًا من المشكلة. بل إن أهم تعقيدات القضية الكردية قد تفككت حينما صرّح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في 12 أغسطس/آب عام 2005 من ديار بكر؛ “نعترف بالقضية الكردية، ونحن سنحلّها”، معلنًا بدء مرحلة جديدة.

لكن مع ذلك، كان الاعتقاد السائد بأن مشكلة “العنف والإرهاب” التي تعتبر إحدى أبعاد القضية، ستُحل بشكل سريع أو سحري، كان اعتقادًا خاطئًا ومغرقًا في التفاؤل. ذلك أن أمراء الحرب والشرائح السياسية المنتفعة من هذا الصراع، كانوا غير مستعدين على الإطلاق لإنهاء المشكلة بوقت سريع. ولذلك السبب اعترض حزب الشعوب الديمقراطي ومن على شاكلته من السياسيين الذين يتاجرون بالقضية الكردية، إلى جانب منظمة بي كاكا بالطبع، اعترضوا على أي احتمال يمكن معه حل القضية الكردية وإنهائها.

لا توجد قضية كردية

وبالتالي فمن حق الرئيس أردوغان أن يقول الآن: “لا توجد الآن قضية كردية”، لأنه تعامل مع الأمر منذ البداية وفعل ما يجب لحل القضية. فلا يوجد أحد في تركيا اليوم يتعرض للإذلال أو الحرمان والتجاهل لأنه كردي، بل أزيلت كل العوائق التي كانت تحظر اللغة الكردية، وتم الاعتراف بالهوية الكردية.

وفي المقابل نجد أن أكثر من اعترض وقاوم بشدة هذه الحلول هم القوميون الأكراد لا الأتراك، لأنهم باختصار ينتفعون ويعيشون على هذه القضية، ولذا فإن قبول أي احتمال للحل أمر صعب.

من الواضح للغاية من يستثمر اليوم في القضية الكردية، وما هو نوع الاستثمارات التي تمنحها الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية التابعة لـبي كاكا في سوريا. ولذلك نقول إن حزب الشعوب الديمقراطي أو منظمة بي كا كا الإرهابية؛ لم يكونوا يومًا ممثلين عن الأكراد، أكثر من تمثيلهم لمصالح الولايات المتحدة وخططها في المنطقة. ولو كانوا يمثلون الأكراد بالفعل لقدّموا إسهامات حقيقية خلال مراحل حل المشكلة والتعامل معها.

ليس من الصعب في الواقع فهم ما يريده رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو من إحياء هذه القضية الآن، في بيئة اُعتمد فيها النهج الأكثر صحة اليوم، وحيث توشك جميع الأبعاد المصطنعة للقضية على الانتهاء.

كل ما في الأمر هو أن كليجدار أوغلو يريد لعق إصبعه والاستفادة من ذلك بطريقة ما، فهو منشغل بذلك من دون أن يدرك أن هذه القضية التي يحاول إشعالها دون ضرورة ستكون فتنة تلتهم نيرانُها الشعبَ الجمهوري قبل أي طرف آخر.

المصدر : الجزيرة مباشر