رسالة يوسف ندا إلى القاهرة
رغم أن البيان صدر ممهوراً بتوقيع القيادي التاريخي في جماعة الإخوان المسلمين، يوسف ندا، إلا أن المدقق لا يحتاج إلى كثير جهد ليدرك أنه يعبر عن الجماعة حتى وإن لم يصدر عنها بصفة رسمية لأسباب سنتعرض لها لاحقا.
فخلال احتفالية الإعلان عن مشروع الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، في ١١ سبتمبر الماضي، فاجأ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الجميع بفتح الباب أمام إمكانية التصالح مع جماعة الإخوان، رغم أنه وفي نفس اللقاء شن هجوما حادا على الجماعة – وإن لم يصرح باسمها – حيث اعتبر أن هناك من سعى خلال تسعين عاما لفرض فكر معين على الدولة المصرية، وظل ينخر في جسد الدولة خلال تلك السنوات، وفهم الجميع أنه يقصد الإخوان الذين احتفلوا العام الماضي بمرور تسعين عاما على تأسيس الجماعة.
السيسي فتح الباب الذي أغلقه من قبل، إذ أعلن إمكانية قبول – وليس احترام – ذلك الفكر (أي الإخوان) وفق ثلاثة شروط قالها باللهجة المصرية ” يحترم مساري ولا يتقاطع معي ولا يستهدفني” والتي يمكن اختصارها في عنوانين رئيسيين الأول: الاعتراف بجميع الإجراءات التي تمت في الثالث من يوليو ٢٠١٣ والتي شهدت الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، وما يترتب على هذا الاعتراف من إجراءات أهمها الامتناع عن وصف تلك الإطاحة بالانقلاب العسكري، والاعتراف بالسيسي رئيسا شرعيا للبلاد. أما العنوان الثاني الذي أراده السيسي فيتمثل في عدم معارضته والامتناع عن الهجوم عليه وعلى سياساته.
تصريحات السيسي هي الأولى من نوعها منذ سنوات، فقد أكد مرارا من قبل على عدم قبول المصالحة مع الجماعة، واستمعنا إليه في لقاءات سابقة – بدا فيها وكأنه كان يرد على بعض أجهزة الدولة – يرفض بشدة عودة الجماعة مرة أخرى.
هي إذن سياسة “الباب الموارب” التي قرر السيسي اعتمادها مع الجماعة في المرحلة المقبلة، فلم يتركه موصدا كما كان في الماضي، بل اختار فتحه قليلا، ثم ترك خيار فتحه أو إغلاقه ثانية للجماعة نفسها بحسب ما سيصدر عنها من إجراءات وسياسات.
رد الجماعة الذي لم يتأخر
اختارت الجماعة أن ترد على تصريحات السيسي ببيان ليوسف ندا الذي يعرف إعلاميا بمفوض العلاقات الخارجية في الجماعة وذلك للأسباب التالية:
- سهولة التنصل منه لاحقا والادعاء بعدم تمثيله الجماعة، وأن البيان كان تعبيرا عن صاحبه فقط، وهذا الأسلوب لطالما لجأت إليه الجماعة من قبل.
- أيضا رغم الأصول المصرية ليوسف ندا إلا أنه ليس محسوبا على الجماعة الأم في مصر، بل هو إلى التنظيم الدولي أقرب وألصق، نظرا لحياته خارج مصر منذ عشرات السنين، إضافة إلى الأدوار الدولية التي لعبها في الخارج، وهذه ميزة تمنحه حرية الحركة خارجيا لتسويق رؤيته، كما أنه لم يتورط في تصريحات حدية ضد السيسي، أو حملات تعبوية داخل الجماعة يصعب الآن التخلص منها أمام قواعد التنظيم.
الملاحظة الثانية المهمة أن رسالة ندا جاءت مختصرة مكتوبة بلغة متواضعة عكس بيانات سابقة للجماعة أو للهيئات المنبثقة عنها أو المشاركة فيها، مثل تحالف دعم الشرعية أو المجلس الثوري، والتي كانت مترعة بالتهديد والوعيد ووضع الاشتراطات ورسم الخطوط الحمراء.
لكن ندا تخلى عن هذه اللغة الزاعقة، والاشتراطات الجامحة، ولخص مطالبه، فلم تحمل رسالته سوى مطلب واحد لفتح الحوار وهو : ” إنهاء معاناة المسجونين من الرجال والنساء ومعاناة أسرهم” مؤكد في نهاية الرسالة ” أن وضع الشروط المسبقة تفسد الحوار ولذلك أقول إن الباب مفتوح”
وهي واقعية تحسب للرجل الذي أدرك أن موازين القوة اختلت بشدة بسبب السياسات الفاشلة التي انتهجتها الجماعة منذ ١١ فبراير ٢٠١١ وحتى الآن والتي لم تترك لها فرصة للمناورة أو الحصول على مكاسب حقيقية، وأدت بجماعة – كانت تحكم مصر يوما ما – إلى محض ملف أمني، وقائمة طويلة من المعتقلين والمطاردين!!
رسالة ندا تزامنت مع تغيرات داخلية يقودها إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد، والذي يقيم في لندن، عبر انتخابات تشير التسريبات إلى أنها أطاحت بأمين الجماعة محمود حسين، وكثير من المقربين منه، لصالح شخصيات محسوبة على منير، المحسوب على التنظيم الدولي وليس على الجماعة بمصر.
فهل هي مصادفة؟ أم أن أننا أمام مشهد يعاد تشكيله داخل الجماعة بحيث يتم إبعاد المجموعة التي قادت المشهد طوال السنوات الماضية، تزامنا مع بدء البحث عن حلول غير تقليدية لإنهاء مأساة التنظيم داخل مصر ولو بالاعتراف بشرعية النظام الحاكم؟؟
إستراتيجية الإخوان الغائبة!!
رغم الضخامة العددية للجماعة إلا أنها تعاني فقرا إستراتيجيا حادا، يدفعها إلى ارتكاب أخطاء فادحة تؤدي بها إلى أزمات حادة تطحنها لسنوات بل ربما لعقود دون أن تتعلم منها شيئا، ثم تهرب من استحقاق المساءلة والمحاسبة إلى سردية البلاء والتآمر المحلي والعالمي عليها!!
فغياب الإستراتيجية دفع الجماعة للترشح لانتخابات الرئاسة دون أن تكون مستعدة لمواجهة استحقاقات ذلك الترشح، ثم رفضت الاقتناع بأن ثمة انقلابا عسكريا يتشكل، وعندما وقع الانقلاب استبعدت فكرة فض اعتصام رابعة بالقوة رغم إرهاصاته، ثم اكتشفنا أن الاعتصام لم يكن لعودة مرسي للحكم كما أشاعوا حينها، بل لتحسين شروط التفاوض!
ثم دهشنا لانفراط عقد الجماعة التي اتضح أنها لم تكن مستعدة لتلك الأحداث، ثم فشلت الجماعة في استغلال رفض ملايين المصريين الإطاحة بمرسي، ثم بنت رؤيتها على انهيار الانقلاب خلال سنتين أو ثلاث تحت وقع الضغوط الاقتصادية!! وهو الأمر الذي لم يحدث بطبيعة الحال.
كل هذا يدفعنا للتساؤل: هل تمتلك الجماعة إستراتيجية واضحة لمواجهة استحقاقات فتح باب المصالحة مع القاهرة؟!! فالأزمة الحالية لن يتم حلها في جلسة عتاب في أحد المقرات الأمنية، أو بتلك السهولة التي تعامل بها السادات مع ميراث سلفه عبد الناصر تجاه التنظيم حينما قرر إنهاء الأزمة بقرارات فوقية
فالتجربة الأقرب لأزمة التنظيم الحالية هي تجربة الجماعة الإسلامية مع مبارك التي قررت صيف عام ١٩٩٧ إنهاء العمليات المسلحة والدخول في مراجعات شاملة أفضت إلى إنهاء أزمة عنيفة امتدت لأكثر من عقدين من الزمن.
وسط شكوك قوية في إمكانية تحصيل الإخوان ذات المكتسبات التي حصلت عليها الجماعة الإسلامية حينها، لأسباب تتعلق بتغير الزمان وتبدل الأحوال.
الورطة الحالية للتنظيم سببها عدم وجود العقل الاستشرافي لدى الإخوان، فحينما قرروا جر مؤيديهم وحلفاءهم إلى مواجهة مفتوحة مساء الثالث من يوليو ٢٠١٣ في ذلك اليوم كان يمكنهم الحصول على مكاسب كبيرة مقارنة بالوضع الآني، لكن غياب الإستراتيجية والتقدير الحقيقي لقوة الجماعة وإمكانياتها الفعلية في مواجهة خصومها أدى بها إلى التخبط الشديد وتضييع الفرص السانحة.
وبالرغم من أن استحقاقات المصالحة المتوقعة، قد تكون مؤلمة، وقد تمتد من الشكل إلى المضمون الفكري، ومن الماضي إلى المستقبل، لكنها تبقى بمثابة كأس السم الذي لابد وأن تتذوقه الجماعة لإنهاء مأساة آلاف المعتقلين والمعتقلات.