لقطات من أسرار نجاح رجل الأعمال محمود العربي

تكثر التساؤلات حول أسرار نجاح رجل الأعمال المصري محمود العربي، الذي بدأ نشاطه بشركة صغيرة بمنطقة الموسكى بالقاهرة عام 1964 يعمل بها أربعة أشخاص، وغادر دنيانا مؤخرا ويعمل بشركاته أكثر من 40 ألف شخص. بينما محلات النصر لتجارة الجملة لصاحبها عبد الفتاح أبو شليب، التي عمل بها العربي بائعا -منذ 1949 ولمدة 14 سنة متواصلة- ظلت كما هي بلا أي توسعات.

الدرس الأول الذي تعلمه العربي مبكرا حينما حل موعد تجنيده فرفض الذهاب في الموعد المقرر، حتى لا يذهب مع الفلاحين الذين يرتدون الجلاليب، باعتباره ممن يرتدون الطربوش بعد عمله بالموسكى 8 سنوات حينذاك، وعلم أن دفعته من مواليد 1932 لن يتم تجنيدها.

وعندما ذهب لقسم الجمالية بعد الموعد أرسلوه إلى التجنيد كمتهرب، ليقضى فترة التجنيد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر كانت من أقسى الأيام وأصعبها في حياته، لكنه تعلم الدرس وهو أن الله يحاسبه على تصرفه أولا بأول، فتغيرت تعاملاته مع الآخرين بشكل جذري، وقال إن النفس أمارة بالسوء فهي عدوة الإنسان لو سار الإنسان على هواها.

ولأن طموحاته كانت كبيرة فلم يكمل العمل بمحل بيع القطاعي للخردوات والتسالي، الذي بدأ العمل به في سن العاشرة واستمر به سبع سنوات، راغبا في العمل بمجال الجملة، وبعد مرور 14 سنة من العمل بمحل الجملة رغب في أن يكون له محل خاص، رغم أن أجره الشهري كان وقتها 13.5 جنيه ولديه ستة أولاد.

فدعا الله أن يرزقه مئة ألف جنيه ومحل البرنسيسة، وهو المحل المواجه للمحل الذى كان يعمل به، ورغم أن محل البرنسيسة تم بيعه إلى أحد التجار وقتها فلم يفقد حلمه، واتفق مع أحد الأشخاص على أن يمول طموحه في امتلاك محل مقابل نصف الربح، وطلب من صاحب المحل ترك العمل، والذى حاول إغراءه بزيادة الراتب لكنه أصر وترك العمل.

ربح قليل يساوى مكسب كثير

وعندما عاد لصاحب المال وجده قد اشترى بيتا بالمال معتذرا له، ليظل بالشارع بلا عمل أو دخل لمدة شهرين، حتى وجد شخصين لديهما أربعة آلاف جنيه يريدان استثمارها مقابل نصف الربح، ووجد محلا بألفي جنيه وجهزه بخمسمئة جنيه، ليستثمر الـ1500جنيه المتبقية، مع أخذ بضاعة بالآجل من التجار كما هو الحال بشارع الموسكى، ليتمكن من تحقيق ربح 14 ألف جنيه خلال عامين.

ولما اختلف الشركاء معه تذكر الحديث الشريف “أنا ثالث الشركاء ما لم يخن أحدهما الآخر، فإن خانه خرجت من بينهما” وعرض عليهما إما شراء المحل أو يشتريه هو فطلبا شراءه، فاتفق مع تاجر يهودي لشراء محله ودفع له عربونا، لكن الشركاء تراجعوا عن رغبتهم في شراء المحل، فأصبح العربي لديه محلين وليس واحدا.

ويستمر عطاء الله له فأصبح لديه محل آخر بشارع بورسعيد، ثم اشترى أرضا بنى بها عمارة ومسجدا ومحلا، حتى كان الانفتاح الاقتصادي وورود بضائع أجنبية عبر ليبيا تشمل الأجهزة الكهربائية، فبدأ ببيع المراوح وأجهزة الراديو والتليفزيون اليابانية، وطبق الدرس الأول الذي تعمله بمحل الخردوات الذي عمل به في سن العاشرة “بع بربح قليل تزيد مبيعاتك فتكسب كثير”.

وأعجب به مندوب شركة توشيبا اليابانية الذي كان يتابع السوق، لما لاحظه من أسعاره المنخفضة عن أقرانه ورواج مبيعاته فرشحه للشركة كوكيل لها بمصر، لتبدأ علاقته بشركة توشيبا التى تطورت بعد ذلك إلى الموافقة على إنتاج بعض منتجاتها داخل مصر بمنطقة بنها، لتليها شراكته مع شركة شارب للغرض ذاته.

واتسع نشاط العربي جغرافيا ونوعيا بإنتاج العديد من الأجهزة المنزلية، وإنشاء مجمعات صناعية فى قويسنا ثم بنى سويف ثم توسع النشاط الصناعي إلى أسيوط، وإنشاء شركة بهونج كونج وأخرى بجنوب أفريقيا وتجميع بالسودان، مع توسع الشراكة مع شركات يابانية وإيطالية أخرى.

  المهندس المصري يتفوق على الياباني

ومن أسرار نجاحه مزجه بين ما شاهده بالتجربة اليابانية من اهتمام بالعمالة وتطويرها، وبين التقاليد الإسلامية التي تحض على إعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، فتعامل مع العاملين بشركاته على أنهم يعلمون معه وليس عنده، مع الاهتمام بتهيئة المكان المناسب للعامل حتى يخرج الطاقة الكامنة به.

واتفق مع شركة تأمين لعمل بوليصة تأمين بالأجور الإجمالية، حتى يجد من يخرج للمعاش مبلغا جيدا يعينه على الحياة، ودبر للعاملين المرتبات الجيدة والحوافز الإنتاجية والنصيب من الأرباح، والوقوف مع العاملين الذين لديهم مشاكل عائلية، وإقراضهم في حالة احتياجهم حيث لا يقترضون من خارج الشركة.

وأعطى أولوية في التعيينات لأبناء العاملين، وبرر ذلك بأن العامل القديم سينقل خبرته لابن زميله، لأنه يعرف أن زميله سينقل خبرته لابنه عندما يعمل بالشركة، وساد تقليد بعدم إخراج الشخص الذى بلغ سن الستين للمعاش طالما هو قادر على العمل وراغبا في الاستمرار به، معتزا بكفاءة العامل المصري حيث قال إنه من خلال التجربة العملية بمصانعه فقد تفوق المهندس المصري على الياباني، مما ولد انتماء العاملين تجاه شركتهم.

والأهم من ذلك هو عدم الاستغناء عن العاملين وقت الأزمات التي تتعرض لها الشركة بسبب ظروف السوق، مثلما حدث مع الأزمة العالمية عام 1997، ومع انخفاض المبيعات خلال عام 2013 وخلال الربع الأول من 2014، وفى مايو 2016 عندما تقرر خفض الطاقات الإنتاجية بسبب صعوبة تدبير الدولار لاستيراد المكونات، وخلال أزمة فيروس كورونا في مارس 2020.

    زيادة العمالة في أوقات الركود

بل الغريب أن العربي كان يزيد من عدد العمالة في أوقات الركود، بما يتناقض تماما مع ما جرى عليه الحال بالشركات بالداخل والخارج في أوقات الأزمات، وكانت فلسفته في ذلك إيمانية واقتصادية، إذ يرى أن لكل إنسان رزقه وتشغيل عمالة جديدة سيجلب معها رزقها.

كما أنه في أوقات الركود يتوسع في البيع الآجل للعاملين لمنتجات الشركات، مما يدفعهم لشراء أجهزة لأسرهم وأقاربهم وجيرانهم بما يعيد دوران عجلة المبيعات.

ولم تقتصر رعاية العربي للعاملين بل امتدت إلى التجار الموزعين لمنتجاته، بالوقوف بجانبهم عند تعثرهم في السداد للأقساط، لتعويمهم حتى يستطيعوا دفع القسط القديم مع القسط الجديد، خاصة وأن هناك بعض الشباب قليلي الخبرة، ولا بد للتاجر الكبير أن يساندهم في أزماتهم حتى لا يهربوا، إذ إن التاجر لن يستفيد عند إبلاغه النيابة من سجنهم.

ومن أنشطة العربي الخيرية وجود مطعم يقدم الوجبات الساخنة للأسر الفقيرة بمنطقة الموسكى من خلال بطاقات، إذ تتقدم السيدة حاملة البطاقة لصرف المقررات اليومية في الوعاء الذي تحمله من أرز وخضار ولحوم حسب الجدول، وسمع ذات مرة أن مدير المطعم خفض الكميات المقررة.

وعندما استدعاه سأله عن السبب في تصرفه الذي لم يطلبه منه، فرد بأنه يعرف أن هناك مشاكل مالية بالشركة فأراد التوفير، فطلب منه العربي إعادة الكميات الموزعة كما كانت لعلها تكون سببا في الفرج، وبالفعل تحسنت الأحوال المادية للشركة بعدها.

ومن مقولات العربي “طالما لا تتمنى لنفسك فقط فإن الله سيبارك في عملك، ولهذا يهمني أن أشتغل وأُشغل ناس معي”، معتبرا أن الدور الاجتماعي لرجال الأعمال ليس فقط تلك الأعمال الخيرية من تقديم المساعدات للمحتاجين، ولكن الأهم هو توفير فرص العمل لحماية أمن المجتمع.

    السوق يمرض لكنه لا يموت

وكان يقول “الإنسان الشاطر هو من يكسب الدنيا ويسكب الآخرة في نفس الوقت”، وينصح “دائما اجعل الله نصب عينيك لأنك لو نسيت الله فإنه سينساك، ولو اقتربت من الله فإنه سيقترب منك، وإن الايمان بالله وحب الناس ثروة من الصعب أن تشتريها”، قائلا “الأصل في العلاقة الناجحة بين الناس هي الحب، وأن بهجة الحياة تنعدم بدون توافر الحب والرحمة والوفاء أو على الأقل يذهب أجمل ما فيها”.

ويردد “حسن الخلق والصدق والأمانة والوفاء يشكلون الباب الملكي المضمون للوصول إلى قلوب الناس، واكتساب ثقتهم في شتى المعاملات”، ولهذا كان تجار منطقة الموسكى يعشقونه لما له من أياد بيضاء على من يمرون بأزمات، ومجاملاته لهم وتجميعهم في تقليد الإفطار الرمضاني الجماعي.

ومن مقولاته “الفلوس التي بالشركة ليست فلوسنا ولكنها فلوس ربنا، إذا لم نعمل سيأخذها ويعطيها لغيرنا”، ولهذا ولتحقيق النجاح اتبع تعليمات صاحب المال من خلال تحقيق النفع للناس.

وكان معروفا عن العربي أنه لا يكذب أبدا، ودائما يذكر نفسه وزملاءه بأن من يتق الله يجعل له مخرجا، فيمكن أن يغير الله الطقس بما يغير من الحال، فزيادة البرودة بالشتاء من شأنها تصريف بطاطين راكدة لدى شركات، وزيادة درجة الحرارة صيفا قد تكون سببا في تصريف مخرون متراكم من أجهزة التكييف لدى شركات وهكذا، مذكرا في أوقات الركود وضعف المبيعات أن السوق يمرض لكنه لا يموت.

وكان يحبذ عند ارتفاع الأسعار بيع المخزون القديم بالأسعار القديمة قبل الزيادات، وعندما يأتي السلع الجديدة يبيعها بأسعارها الجديدة، لأن في هذا مصلحة التاجر حيث يستطيع تصريف ما لديه من مخزون.

 المستهلك هو الملك في السوق

ويرى العربي أن المستهلك هو الملك في السوق، قائلا إن ما يحكمنا جميعا هو ما في جيب الزبون، وذكر أن الشعب المصري اعتاد على مقولة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب لأنه ليس عنده أمل في زيادة دخله، وهذا الإنفاق هو ما يحرك السوق، ولهذا فإن خفض الضرائب والرسوم على الشركات من شأنه خفض أسعار السلع.

وخفض الضرائب على الموظف من شأنه زيادة السيولة وزيادة قدرته الشرائية لديه، مما يزيد من عمليات الشراء والبيع فيقل الركود الأمر الذي ينعكس على السوق الصناعي مع انخفاض تكلفة الإنتاج، فتزيد فرص التشغيل ويزيد التصدير.

ونفى اتهام التجار كلما زادت الأسعار منذ أكثر من نصف قرن أنهم حرامية، مذكرا أن زيادة الأسعار وبال على التاجر وعلى المستهلك وفيها وقف حال.

ويرى العربي أن التأميم كان وبالا على مصر، فحتى عام 1960 لم يكن هناك شيك أو كمبيالة بين التجار وكانت الثقة والكلمة هى الأساس بالمعاملات التجارية، وعندما كان التاجر يطلب من بائع التجزئة ورقة بالدين يتركه ويذهب لغيره، ذاكرا أنه بعد التأميم لم يكن هناك أحد معه عشرة آلف جنيه، كما قام المهربون بشراء غالبية المحلات، ودخل تجار مخدرات السوق وقاموا بشراء المحلات بأثمان عالية، مما أضر بالسوق والتجارة وبسمعة التجار.

ومن مقولاته “المنافسة والغيرة مطلوبة لأنها تخلق الرجال، مثل المنافسة في السعر، لكن لا يصل الأمر إلى الحقد”، ودعا للطموح والسعي لتحقيق الهدف مع الأخذ في الاعتبار أن الوصول للهدف أو عدم الوصول إليه بيد الله، وأن الله سيحاسبنا على بذل الجهد، كما دعا إلى إعطاء كل الاهتمام للمشاكل التي تطرأ خلال العمل.

وكان دائمًا يبدأ يومه بترديد أذكار الصباح مرددا قبل بدء العمل مقولة “توكلت على الله”، وفى المساء وبعد انتهاء العمل يحمد الله على ما وفقه خلال اليوم من أعمال.

وحرص العربي على عدم الاعتماد على قروض البنوك، بعد أن تعلم الدرس حين حصل على تسهيلات مصرفية بالدولار عام 1984 حين كان سعر صرف الدولار وقتها 132 قرشا، وفى يوم وليلة أصبح السعر 170 قرشا للدولار وبعد أسبوع أصبح 250 قرشا مما أصاب التجار المقترضين بالدولار بخسائر كبيرة.

واستفاد من ذلك أيضا بالتوسع بالتصنيع المحلى للمنتجات لتفادى مخاطر سعر الصرف قدر المستطاع، كما قام بزيادة نسب المكون المحلى في الأجهزة المنزلية التي ينتجها تدريجيا ليقلل من الاستيراد، داعيا لنشر ثقافة التصنيع الأكثر تشغيلا.

المصدر : الجزيرة مباشر