استراتيجية حقوق الإلحاد

عرف عن الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- اهتمامه بما يصدر عن الغرب وما يصدر إلينا منه، وله في ذلك جولات متعددة، منها كتابه “ظلام من الغرب” و”حقوق المرأة بين التقاليد الوافدة والراكدة” وكتاب “دفاع عن العقيدة والشريعة” الذي رد فيه على شبهات المستشرق المجري جولد زيهر، ومن أجمل ما كتب في هذا المضمار “جدّد حياتك” الذي تناول فيه ما كتبه الكاتب الأمريكي ديل كارنيجي في كتابه “دع القلق وابدأ الحياة” مسطرا تحت هذا العنوان ما اعتبره خلاصة الفكر البشري، فرد الشيخ محمد الغزالي ما قُدم على أنه جهد بشري إلى أصوله الإسلامية في مصادره الأصلية، التي فيها ما ذكره كارنيجي وأضعافها مضاعفة، والأمر نفسه في كتابه “حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة” حيث قدم الشيخ الغزالي توضيحا لاعتناء الشريعة الإسلامية بالحقوق الخاصة بكل فرد، والحقوق والواجبات بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، ويُرجع الشيخ الغزالي كل مبدأ من مبادئ إعلان الأمم المتحدة إلى أصله في الدين الإسلامي، مؤكدا أن هذا الإعلان أظهر تخلف الأمة الإسلامية التي انبهرت بتعاليم دينها عندما صاغها الغرب وأعادوا تصديرها لنا مرة أخرى في هذا الإعلان وغيره، وأثبت في نهاية كتابه نسخة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة بعدما أعلن كوثيقة حقوق دولية، في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، في قصر شايو في باريس، وبعد صدور هذا الإعلان جعلته الأمم المتحدة معبرا عن رؤيتها في مجال حقوق الإنسان، التي ينبغي حمايتها في كل المجتمعات.

لكن الجمهورية المصرية في نسختها الحالية تعيش في عالم آخر، وكأنها لم تسمع بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ناهيك بأن تقف عند جهد أحد رموز الفكر والثقافة من أبنائها الذي حاجج العالم المتحضر بما لديه من موروث حضاري وثقافي، معلنا ومتحديا أننا الأسبق وإن لم نكن الأفضل مؤقتا !

عج الفضاء الإعلامي المصري بالحديث عن الاستراتيجية المصرية لحقوق الإنسان، وبدا الحديث وكأنه اكتشاف جديد واختراع لم نسبق إليه!

ظهر علاء عبد الفتاح أحد أبرز شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو في حالة نفسية صعبة

ومن تابع المؤتمر الذي عقده النظام المصري لهذه الاستراتيجية يدرك أن النظام غير جاد في هذه المسألة، والأمر لا يعدو “الشو إعلامي” وسياسة أخذ “اللقطة” التي أصبحت من أدواته وأساسياته، بدليل أن ما طرح تحت حق المواطنة، وحقوق الإنسان هو جملة من الجدليات والترفيهيات بعيدة كل البعد عن واقع المواطن المصري المسحوق، فبدلا من تدشين الاستراتيجية بالحديث عن منظومة الغذاء والدواء، وخطة النهوض بالصحة والتعليم، أو قضايا الإخفاء القسري وعشرات الآلاف من المعتقلين، لا سيما النساء والمرضى وكبار السن، إذا بالقضية الأبرز والمحور المهم هو مناقشة حذف خانة الديانة من البطاقة الشخصية والمحررات الرسمية، وتزامن مع إطلاق هذه الاستراتيجية بفعل القدر ظهور صورة عائشة بنت المهندس خيرت الشاطر، المعتقلة هي وزوجها منذ ثلاث سنوات، وقد تبدلت هيئتها وظهر عليها الإجهاد الشديد، حتى كتبت ابنتها أنها لم تتعرف عليها للوهلة الأولى، لكن الجمعيات الأممية والنسوية لن تكتب عن عائشة لانشغالهم بحقوق المرأة الأفغانية في الاختلاط وتعلم الموسيقى!

وفي التوقيت نفسه ظهر علاء عبد الفتاح أحد أبرز شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو في حالة نفسية صعبة، وقال إن الموت أفضل من الظروف التي يعيشون فيها داخل زنازين النظام صاحب الاستراتيجية العبقرية.

كان بعض الناس يعلق آمالا على تغيير السياسية الأمريكية تجاه ملف حقوق الإنسان في مصر، وتغيير سياسية دونالد ترمب تجاه ديكتاتوره المفضل مع استلام بايدين للحكم، لكن ظهر أن دعم الاستبداد في البلاد العربية سياسة دائمة، بعيدا عن شخص من يجلس في البيت الأبيض، فكل ما فعله بايدن هو تعليق مليون وثلاثمائة ألف دولار من المساعدة الأمريكية التي تذهب إلى القيادات العسكرية، ولا يساوي هذا المبلغ المعلق تكلفة حفلة واحدة من حفلات الساحل الشمالي، أو مؤتمر من مؤتمرات شرم الشيخ، وفي ملف المعتقلين الذي وصل إلى أكثر من مائة ألف معتقل ومطارد، تحدث الرئيس الأمريكي عن ستة عشر معتقلا فقط!

جرّأ المكتب الهندسي المشرف على بناء مسجد بمحافظة الفيوم على وضع النقوش الفرعونية على واجهته

لا أرى في مصر أي نوع من المنهجية أو الاستراتيجية في أي مجال إلا في الحديث عن الدين والشريعة والعقيدة، إذ لا يخلو أسبوع أو مناسبة أو خطاب من حديث عن التدين في مصر، أو التعرض لعقيدة أو محاولة تبديل شريعة والتضييق على شعيرة، بداية من طلب الخروج عن دائرة النصوص المقدسة، إلى عدم الاعتراف بالطلاق الشفهي، أو محاربة ملصق “هل صليت على النبي اليوم؟!”.

وقارنت ذلك مع الدول العربية والإسلامية على اختلاف أنظمة الحكم فيها، وقرب حكامها وبعدهم عن الإسلام لم أجد أي تشابه مع ما يحدث في مصر، بما يؤكد أنها فعلا خطوات ممهِدة، واستراتيجية ممنهجة لطمس الهوية الدينية، وتأكد ذلك بعد التصريح العلني الرسمي خلال الأسبوع الماضي بالترحيب بالإلحاد وعدم التثريب على الخروج من الأديان، والدعوة لإعادة النظر فيها ومناقشة مسلماتها، ولعل هذا الجو العام، من تمييع الهوية والتسوية بين الإلحاد والإيمان، هو الذي جرّأ المكتب الهندسي الذي يشرف على بناء مسجد في محافظة الفيوم على وضع النقوش الفرعونية على واجهته، واستخدام هذه الرسوم في زخرفة حوائطه وجدرانه!

يبدو أن الحقوق الأساسية التي سلبت من الإنسان المصري كالحق في الحرية، وحرية التعبير، والحق في الدواء والتعليم، والخلاص من الفساد والاستبداد، سيضاف إليهم طمس الهوية الدينية، وغرس الشك في المعتقد، ومحاولة كتم صوت أي “بلال” حتى لا يقول أحد: (أحدٌ.. أحدٌ).

المصدر : الجزيرة مباشر