ذكرى الإبادة البريطانية لفرسان السودان

الملحمة كما رسمها مؤرخ أمريكي (نقلا عن موقع وزارة الدفاع السودانية)

وقعت معركة كرري بين جيش المهدية السوداني والقوات البريطانية صبيحة الجمعة 2 سبتمبر/أيلول 1898م، شمال مدينة أم درمان _العاصمة التاريخية_ وجسدت بسالة المحاربين الذين لقوا حتفهم في محاولة لصد الهيمنة الكولونيالية، وحصدت المدافع ونيران الغزاة أكثر من “18” آلف فارس،  هبوا لنصرة الإسلام بشجاعة مُنقطعة النظير، حتى جرت على ألسنة العامة من السودانيين، تلك العبارة، ولا تزال، ” الرجال ماتوا في كرري”٠

مذبحة وإبادة جماعية

في الحقيقة انطلق أكبر حشد عسكري شهدته أفريقيا منذ الحروب الصليبية، فيما عدا بضعة آلاف يحملون البنادق كان الأنصار جميعهم مسلحين بأسلحة بدائية، من القرون الأوسطى، وبعض الأمراء كانوا يلبسون الدروع الحديدية، وكانت أول رايات الأنصار التي لاحت الراية البيضاء التي تقدر بثمانية آلاف مُقاتل، والراية الخضراء الباهية تحت قيادة الخليفة علي ود حلو، بنحو عشرين ألف مقاتل، أما الراية الزرقاء فهى راية خليفة المهدي تحت لوائها بقية الجيش، الرجال على الأقدام والأمراء على الخيول والجمال، جميعهم اندفعوا صوب جبال كرري الشاهقة، بصدق وفدائية “في شان الله .. في شان الله” كما رددوا، وهنا صدر الأمر الملكي بفتح نيران البوارج ورشاشات المكسيم، على جيوش المهدية، وبدأت المذبحة، كل قذيفة انطلقت خلّفت عشرات القتلى، دون أن يمنع ذلك اندفاع الأنصار، ينافحون دون جدوى لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة العديمة الأثر، يضربون الطبول ويلوحون بالأعلام ويكبرون كأنه عرس تخضبت له الأرض بالدماء، حتى إن الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل، مضى يشق الصفوف من فوق جواده، شاهراً عبارته الخالدة “الخـيرة في ما اخـتار الله، نصرة ما في، إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو ..”، ومن جهة أخرى انصب على حماة الرايات الملونة، وأصحاب الجّبب المُرقعة، وابل من نيران بنادق المارتين هنري، كانوا يتساقطون كسنابل القمح تحت المناجل الحادة، “لم تكن تلك معركة وإنما كانت مذبحة” كما ذكر جورج استيفن في كتابه “مع كتشنر إلى الخرطوم”.

الشجاعة الساحقة

فقد الأنصار في معركة كرري أكثر من ستة وعشرون ألف رجل ما بين قتيل وجريح، أي نصف الجيش المقاتل، استلقى البعض منهم بهدوء واضعين أحذيتهم تحت رؤوسهم في مواجهة الموت المُحدق، والبعض الأخر استشهد وهو يصلي وأرجله مقيدة حتى لا تنطلق أقدامه هاربة، وكثير منهم واجهوا الرصاص مُقبلين غير مُدبرين، وهذا دليل شجاعة ساحقة، لكنه أيضاً يضمر تخلفاً عن مواكبة المعارك الحديثة والجيوش النظامية، إذ أن الشجاعة لوحدها ليست كافية في مواجهة النيران الهائلة. وبالرغم ان كتشنر فقد القليل من الجنود، إلا أن المعركة كانت أعمق من ذلك بكثير، كما وصفها جورج ستيفنز أحد المراسلين الحربيين، فكتب قائلاً:”إنه لأضخم وأعظم وأشجع جيش قاتل ضدنا أبداً، ما هزمناهم ولكن أبدناهم”.

تحرك الأسطول النهري عبر النيل وفتح نيران مدافع الهاوتزر الثقيلة على المدينة وأمطر منازلها بالقنابل، مصوباً بصورة مباشرة على قبة المهدي، لضرب رمزية الثورة الدينية، فظهرت فيها فتحات كبيرة جراء النيران، مؤذنة بغروب شمس الدولة المهدية، وبارقة الأمل الوحيدة في ذلك الوقت للتصدي للاستعمار الأوربي الزاحف بشراهة.

سردار الشؤم وكبرياء الملكة

انتهت معركة كرري عند الظهيرة، وبعد ذلك اقتحم كتشنر مدينة أم درمان، محاطاً بضباطه، وكان دليله فيها رودولف سلاطين، سجين الخليفة الذي التحق بعد هروبه بجيش السردار، أو سردار الشؤم، فأطلقوا النار على كل مقاتل، حتى الجرحى. كانت أم درمان في حالة فوضى والمنازل مكتظة بالجثث المجندلة، وبالثكلى والأرامل والأطفال المذعورين.

ولعل الجدل حول قتل الجرحى والأسرى بعد المعركة طمسته الحكايات البريطانية المنتشية بالنصر، لكن بينت بيرلي الصحفي الذي رافق الحملة الاستعمارية إلى جانب ونستون تشرشل، المراسل الحربي آنذاك، ورئيس وزراء بريطانيا لاحقاً، حفلت مذكراته بتلك الفظائع الدامية، وبدا ان الاهتمام بتلك المعركة تحديداً، جاء مترجماً للشعور القومي الجارف  بضرورة الإنتقام لكبرياء بريطانيا الذي أصابته الثورة المهدية عندما قتلت أبرز جنرالاتها ” وليام هكس، ستيوارت، وتشارلز  غوردون” .

إعادة احتلال السودان تم على ثلاثة مراحل عسكرية، في العام ١٨٩٦ احتل كتشنر مديرية دنقلا، وفي العام ١٨٩٦ وصل الجيش الانجليزي المصري إلى نهر عطبرة، وفي العام ١٨٩٨ قضوا على الأنصار خارج مدينة أم درمان، كل ذلك لينتقموا ممن قتل الجنرال غردون، ولم ينته الأنتقام والتشفي هنا، وإنما أصدر كتشنر أمراً في السادس من سبتمبرأيلول بتدمير مقبرة المهدي، ونبش الجثمان الطاهر ورميه في النيل، بطريقة أقل ما توصف بأنها وحشية، لكن ذلك لم يتم لأسباب غير معلومة.

أسباب الهزيمة

بينما كانت جبال كرري التي وقعت فيها المعركة الفاصلة بمثابة خط الدفاع الطبيعي الوحيد أمام معقل الأنصار، كان لدى الخليفة عبد الله التعايش نحو “55” ألف رجل من المقاتلين الذين لا نظير لشجاعتهم، يحملون السيوف وبنادق الرامجتون ولكن لم يكن لديه ما يصد به قوة النيران والاسلحة الحديثة الفتاكة، التي حشدتها الامبراطورية البريطانية ضده، إلا ان ذلك لم يكن السبب الوحيد للهزيمة، فرحيل الإمام محمد أحمد المهدي الملهم الوحيد للثورة بعد أشهر قليلة من سقوط الخرطوم على يده، وطغيان النزعة الجهوية والقبلية بعد ذلك، وتفشي الفساد، ضعضع الجدار المعنوي للمهدية، التي ظلت أدبياتها راسخة حتى اليوم في عقيدة الجيش السوداني.

بعد يومين من المعركة أخذ كتشنر فِرقة موسيقية وحرس الشرف وعبر بهم النيل إلى الخرطوم، حيث أقام هنالك في ساحة قصر الحاكم العام المهجور والمغطأ بالأعشاب البرية نصباً تذكارياً للجنرال غردون الذي ذبحه أنصار المهدي يوم فتح الخرطوم في العام “1985”وكان الإمام المهدي يريد أن يفتدي به أحمد عرابي السجين في مصر، دون أن يسعفه الوقت، وتم بالفعل رفع علم الاحتلال فوق سرايا الحاكم العام، وعندما علمت الملكة فيكتوريا بما جرى فرحت وكتبت “لقد تم الانتقام لغردون الآن بالتأكيد”

وبعد نحو عام من تلك المجزرة وقعت معركة أخرى بالقرب من أم دمان مع القوة التي يقودها خليفة المهدي بنفسه، وحصدتها مدافع الانجليز، ووجَدّ الخليفة وأمراءه قد مزقهم الرصاص وهم داخل الخنادق وجوههم ناحية القِبلة، ما لان عزمهم، ولكن سحقوا دون رحمة، بطريقة نزعت عن الصلف البريطاني الزاحف من وراء البحار، المسحة الإنسانية الكذوبة والأقنعة الحضارية المدعاة.

نظرياً تم إعادة احتلال السودان باسم خديوي مصر، وأحياناً يوصف ما جرى بالاحتلال الثنائي، لكن الأمر في حقيقته هو استعمار بريطاني شمل مصر والسودان، وانتهى إلى نهب موارد البلدين وتسخيرها لخدمة حروب الحلفاء العبثية، ولم تعتذر بريطانيا، حتى اليوم، عن ما أوقعت بالسودان من خراب وتفرقة، وبقيت كرري المعركة الأسطورية تذكرنا بالمقاومة الوطنية لجنودنا الشجعان، وتضحيات الأجداد، وكون روح الإسلام الثائرة راسخة فينا منذ آمدٍ بعيد.

المصدر : الجزيرة مباشر