لماذا غاب الفقراء عن ملحمة رغيف الخبز؟

تحول سعر رغيف الخبز في مصر إلى ملحمة شعبية، يشارك فيها الكبار والصغار، العوام والصفوة.   كل يبكي على ليلاه، فالفقراء، أصابهم الأرق لفقدانهم آخر حائط سد لهم في الدنيا، وهو الرغيف المدعوم، الذي يمكنهم من البقاء أحياء في مجتمع يعيش ثلث تعداده تحت خط الفقر وثلث آخر بالكاد يتناول وجبتين يوميا، وفي الحالتين يمثل الخبز بالنسبة لهما، الجزء الأعظم من الكتلة الصلبة التي تملأ بطونهم.

وليس من المستغرب عادة أن تجد صاحب المخبز لديه مشروع تسمين للمواشي

رفع البعض شعار ” لا مساس بدعم الخبز”، وكأن الحياة من دون هذا الدعم مستحيلة، فقلة هي التي ترى أن هذا الدعم مازال حجر الزاوية في بلد أغلبيته من الفقراء، بقول رأس النظام نفسه” ما تعرفوش ان احنا فقرا قوي”، ولذلك يبدون استغرابهم من أن المسؤول ذاته يقول ” سعر شراء الحصة اليومية للأسرة من الخبز المدعوم لا يساوي ثمن سيجارة”. وكأن المصريين الذين يسدون رمقهم بفتات الخبز هم الذين يدخنون مليارات السجائر التي تحتكر إنتاجها شركة حكومية، وتحقق دخلا صافيا يبلغ ١٧ مليار جنيه سنويا. أما أغلبية المشاركين في الملحمة، فمنهم من يرغب في استمرار الدعم لأنه جزء من منظومة الفساد التي تقتات على أمواله، والتي تمر عبر شبكة من أصحاب المصالح، الذين تربطهم علاقات وثيقة بنواب في البرلمان أو مسؤولين في المحليات والأجهزة التنفيذية. فمن المعتاد أن رخص الأفران البلدية للخبر المدعم، لا يحصل عليها إلا من كان” النقيب خاله ” كما يقول المثل المصري، وهم أعضاء بالبرلمان وأقاربهم ممن يعملون لحسابهم أو تحت إمرتهم وبخاصة في وزارات التموين والمحليات، والبترول. وهذه العلاقات تمكن منظومة الفساد من العمل على التلاعب في وزن رغيف الخبز وتسريب الدقيق المدعوم إلى السوق السوداء، وضمان أن يصل الخبز رديئا كي لا يعتاده الناس وجبة شهية، وليظل جزء كبير منه متجها إلى الزرائب علفا للحيوانات والدواجن.

وأصبحت يد الوزارات مطلقة في تقدير قيمة خدماتها ومنتجاتها

وليس من المستغرب عادة أن تجد صاحب المخبز لديه مشروع تسمين للمواشي، وله مصاهرة مع مسؤولي التموين أو الصحة  وتفتيش المحليات. فالدورة المكتملة لسلسلة الفساد هي التي تمكن العاملين في هذه الأنشطة من تحقيق أعلى المكاسب. و من المألوف أن تجد مخبزا يحصل على حصته من الدقيق ولا يعمل إلا نادرا، وبعضهم يعمل بعض الوقت، لخوفه من مفتشي التموين، ويهرب باقي الدقيق إلى السوق السوداء .وساد هذا الوضع الشاذ طوال عقود طويلة، إلى أن طبق مؤخرا، نظام التوزيع الرقمي لدعم الخبز، فأصبح صاحب المخبز يستفيد من الدعم برضى الجمهور وتستر بعض العاملين في  أجهزة الدولة التي تمنح  كل مخبز  حصة من الإنتاج، فكلما زادت حصة البيع ولو افتراضيا تزيد فرصته في المكسب، حيث يتولى المخبز شراء الدقيق من المطاحن بسعر السوق، وعليه تجميع ” بطاقات الخبز” الإلكترونية من الجمهور، ليحصي عدد الأرغفة التي يحصل عليها حاملو البطاقات.  وفي سبيل ذلك  يحصل على فرق التكلفة بين قيمة الإنتاج  والسعر المدعوم من الدولة، وهو نظام أدى إلى خفض إنتاج الخبز نسبيا وبخاصة الهالك، ولظهور وسيلة فساد أخرى تعتمد على تنازل صاحب البطاقة عن عدد من الأرغفة مقابل شراء سلع  بديلة يغالي صاحب المخبز في تسعيرها. لذلك تظل منظومة الفساد في الخبز مستمرة لأن صاحب الحق الاصيل في رغيف الخبز المدعوم غائب عن مناقشة هذه القضية المصيرية ولا يدافع عنه أحد. هذا الفقير البائس الذي يقف في طوابير طويلة من أجل بضعة أرغفة خبز مدعوم لا ناقة له ولا جمل له في معركة يعلم نتيجتها مسبقا. فعندما يشير رأس النظام إلى ضرورة رفع سعر الخبز فهو لا يحتاج إلى ربط قضية الخبز المدعوم بانخفاضه عن سعر السجائر. فالباحث عن لقمة خبز لم تفلح أجهزة الدولة طوال عقود في تحسينها رغم اشتراك جهات سيادية في ادارتها وانتاجها واقامة أفران تابعة للحكومة، لا ينظر إلا لكيفية الحصول على هذا الفتات ولو كان مغمسا في التراب. فالحاجة في نظر أرباب الأسر مذلة، والوقوف في طوابير المخابز لساعات أهون من مد الأيادي طلبا لسؤال الأخرين وبخاصة في بلد يتعاظم به الفقر والهوة بين الفقراء والأغنياء. والمصري الحصيف يعلم أن ما يدور حول تسعير رغيف الخبز هي ” اشتغالة” من النظام، لتوجيه أنظار الناس إلى قضايا تبدو في ظاهرها تهم كل الشعب وهي ستحسم في نهاية الأمر من سلطة لا تتورع عن رفع اسعار أية سلعة أو خدمة بجرة قلم، دون تشاور مع مجتمع أو برلمان. فلو كانت السلطة تهتم بحالة الرغيف لفعلت، ولو همها توزيع الخبز على مستحقيه لخاضت في سبيل ذلك المعارك مع ” مافيا ” الخبز”، حيث تعلم أوكارهم وروابطهم. ولكن الفقير يعلم أن هذه الحرب غالبا ما تنتهي مع لحظات بداية انطلاقها.  فمن المعتاد أن يتفاجأ الناس بزيادة الأسعار بداية من فواتير الغاز والكهرباء والمياه والصرف الصحي، مرورا برسوم استخراج الرقم القومي وشهادات الميلاد ورخص القيادة والسيارات، وانتهاء بالجلوس على الشواطئ والمرور على الطرق والالتحاق بالمدارس. فلا فرق هنا بين سلعة حيوية كالخبز والوقود وأخرى ترفيهيه مثل ضرائب الملاهي والشواطئ، وهي أمور مهمة للناس جميعا، يتعاطون معها يوميا، وتدر مليارات الجنيهات للدولة، لدرجة أن البعض يطلق على الاقتصاد الرسمي ” اقتصاد الجباية” لأن الحكومة أصبح جل اهتمامها إلغاء الدعم وزيادة الضرائب، لسداد العجز في الموازنة وضمان دفع مرتبات العاملين بالدولة والأجهزة الأمنية والسيادية.

وأصبحت يد الوزارات مطلقة في تقدير قيمة خدماتها ومنتجاتها، رغم أن الدستور والقوانين يحتمان عدم جواز زيادة الضرائب والرسوم إلا بموافقة البرلمان، إلا أن هذه المواد أصبحت معطلة أو يتم الالتفاف عليها بقرارات جمهورية. فقضية أعباء زيادة سعر الخبز على ميزانية المواطنين وبخاصة الفقراء لن تكون لها أية قيمة في ظل الشره الشديد للسلطة لرفع أسعار المواد الأكثر حيوية من الخبز ذاته وهي الكهرباء والوقود والخدمات التعليمية، التي طالت جميع المراحل والمستويات.  قد تكون أسعار الخبز هي الأشد وطأ على الفقراء، ولكنها لن تكون الكارثة الأخيرة، فالحكومة لديها اتفاقات لا نعلمها مع صندوق النقد والبنك الدوليين و دوما لديها مبرر لرفع الأسعار تارة تحت زعم أنها أقل من الأسعار العالمية وأخرى لزيادة التكلفة وتوجيه جزء من المخصصات للفئات المعدومة، وها هي تنقض على الجزء الأخير الذي يسد رمق المعدومين، فبدلا من أن تحسن تدبير الأمر ليصل الخبز المدعوم لأصحابه، تشغل الناس بقضيته، لعل القادرين على تحمل تبعاته، ينشغلون به عما يحدث في إثيوبيا ونهر النيل أو يفكر الناس في أنفسهم، فلا يبحثون في دواوينهم إلا عن سبل الحفاظ على حياتهم ولقمة عيشهم، بينما تتفرغ السلطة لما هو آت من قرارات تكبل بها الشعب من جديد.

المصدر : الجزيرة مباشر