بالقانون.. عودة الحرافيش لشوارع مصر المحروسة

السايس

عالم الحرافيش من القصص الشعبية التي خلدها الرائع نجيب محفوظ، في ثلاثيته الشهيرة عن فتوات باب الشعرية والمناطق الشعبية في مصر خلال حكم عسكر المماليك.

لا أدري لماذا تذكرت مشاهد هؤلاء الفتوات الذين كانوا يعملون لحساب عسكر المماليك، عندما بدأت الحكومة تطبيق القانون المعروف في الشارع المصري الآن بقانون السايس، لا سيما أن صرخة الناس ضد القانون ترتكز على أن الإدارات المحلية، فرضت جباية على ملاك السيارات، ولجأت إلى فتوات الشوارع لتحصيلها من الجمهور، ولو تحت سطوة البلطجة.

أثار المشهد في الذاكرة كيف أن سطوة الفتوات تعلو في زمن الأنظمة الرخوة التي لا يهمها سوى جمع المال، على شكل ضرائب قاسية أو إتاوات خارج القانون أو جباية تنفق منها على رجالها وترضي بها القوى المساعدة لها، في الإدارة، بعيدا عن الإطار الرسمي في الدولة.

وعودة لثلاثية عمنا نجيب محفوظ، نجده صور  حياة الفتوات أشبه بعصابات  المافيا الايطالية، إما يخرجون من رحم عائلات أو مجموعة من الرجال يعملون لحساب المعلم الكبير، الذي يكون أقواهم شكيمة وأكثرهم شعبية، وأرجحهم عقلا، حتى يكون عالما بطبائع البشر الذين يتولى شؤونهم، واحتياجات القائد المملوكي الذي يدير الناحية التي يحكمها الفتوة ورجاله على أرض الواقع، وأن يكون لديه الحنكة بمعرفة آخر حدوده في إدارة الناس وإلا أرهقهم بما يدفع للخروج عليه، بتشجيعهم فتوة آخر، أو اشعال ثورة شعبية تحرقه وتطال يد المملوك القائد نفسه، فيعم الخراب على الجميع.

لذلك كان المماليك يلجأون إلى الفتوة المحبوب، وعندما يخرج عن طوعهم أو يسبب لهم مشاكل مع أغلبية المواطنين يخلعونه أو يكيدون له حتى يقع في المهالك.

جمع الفِردة

ونجد في ثلاثية الحرافيش، أن الفتوة يعلم كيف يجمع “الفِردة” من الناس ويختار الوقت الذي يفرض فيه الاتاوات، فعندما تتحسن الأسواق وتزدهر التجارة، يطلب من التجار ما يشاء ويعذرهم إذا ساد الكساد أو عم الوباء.

فالمملوك يعيش بين الناس وليس في قصور أو قلعة تحميه وعينه على المستقبل، فربما يحالفه الحظ ويكون أحد المماليك المرشحين لتولي الحكم من قصر القلعة وساعتها سيكون قبول العامة أكبر مرجح له بأن يتولى السلطة دون حرب أو تدبير انقلاب.

والفتوة يريد أن يحافظ على مصالحه من التجار ويحمي الناس من الفتوات الآخرين الذين يعيشون في مناطق أفقر أو يطمعون في خطف ما لديه من مال أو حظوة عند عسكر المماليك. ورغم أن عمنا نجيب يبين لنا في حياة الحرافيش انفاقهم الأموال على الملذات والنساء إلا أنهم لا يظهرون بأي صفة سيئة مع من يحمونهم، فهم أمناء على الأعراض، نبلاء في طلب العدل واقامة النظام بين الأغنياء والضعفاء، إذا تعرض تاجر غني لأزمة ساعدوه وإذا لجأ إليهم فقير أعانوه، من باب المروءة والشجاعة، وشغفهم بأن يسود صيتهم في الحي الذي يحمونه، والمناطق المجاورة لهم.

لقد أدى نجاح الحرافيش الفتوات إلى استمرار عملهم رغم تغير الأنظمة ومرور الأزمان، وفي العصر الحديث مع بداية دولة القانون ودستور ١٩٢٣، أصبح للدولة أذرع قوية لإدارتها و نظام بلديات تعمل على تجميل المدن والشوارع و تنفيذ القانون على الجميع، فاختفت ظاهرة الفتوات قليلا، وأصبح وجودهم منحصرا في المناطق الشديدة الفقر وتجمعات الغجر المستقرين حول المدن الكبرى والرحالة وحرامية الأسواق، وتجارة المخدرات والدعارة، لذلك اختفت الصفات الجيدة في الفتوة وتحولت كلمة البلطجي الذي كان يحمل البلطة لتنفيذ أمر القانون موازية لكل صفات قميئة في البشر.

الظهور من جديد

انحدرت دولة الحرافيش، مع ذلك لم تختف أبدا، وظهرت من جديد، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ النظام السياسي في الترهل، حيث استخدم السياسيون البلطجية في ضرب خصومهم، وحرق مقارهم وتجمعات الحملات الانتخابية، إلى أن وظفتهم أيادي قذرة في حرق وسط القاهرة، وهو الحدث الجلل الذي أسقط النظام الملكي برمته. ومع ظهور حركة الضباط الأحرار تحول هؤلاء إلى متظاهرين بالأجر، حيث يحتشدون أمام قطار الحركة المباركة، كما يقول المؤرخون فتلقى إليهم صورة اللواء نجيب وملصق بها ١٠ قروش ورقية، فيرفعون صورة الحاكم الجديد، على طول طريق السكة الحديد بين القاهرة والاسكندرية. كانوا سندا قويا للسلطة الجديدة لمحو العهد القديم من الذاكرة. ولأهمية هؤلاء البلطجية، تركت الدولة لهم فرصة للتوسع في مناطقهم العشوائية وسط العاصمة وحول أطرافها بداية من عزبة الغجر في طريق السويس وما تسمي الكيلو ٤.٥ والجيارة وبطن البقرة والباطنية، بالإضافة إلى تركهم يبنون في المناطق حول المصانع والمساكن الشعبية التي بينت على الطرق المؤدية للعاصمة في كل مكان، لتكون الذخيرة الشعبية وراء نظام يوليو.

استفحل دور البلطجية في نصف القرن الماضي، حتى بلغ تعدادهم وفقا لدراسة أعدها الصديق اللواء رفعت عبد الحميد مدير البحث الجنائي سابقا، نشرتها عام ٢٠٠٨ في جريدة الوفد وقناة الحياة، نحو ٦٠٠ ألف بلطجي وبلطجية. وتشير الدراسة إلى أماكن انتشارهم بدقة، وأنهم يعملون لحساب من يدفع من رجال الإعمال والسياسيين، خاصة أثناء مواسم الانتخابات، ولهم أجور محددة لكل عمل. فالقتل له سعر والضرب بآلات حادة سعر وتكلفة الضرب مع احداث عاهة خفيفة مبلغ أقل، وتخفض التكاليف عند تأجير امرأة لتضرب رجلا أو تنظم حفلة شتائم قذرة لشخص يراد به أن يصبح مثار سخرية أمام الآخرين.

دورهم في الثورة

وهؤلاء البلطجية يمارسون كل أنواع الموبقات من تجارة المخدرات، إلى الدعارة والسطو المسلح ولهم أسواق للمسروقات معروفة للجميع وأشهرها سوق الحرامية بمنطقة القلعة. ويحمي هؤلاء البلطجية عائلات خرجت منهم، وبعض الضباط الذين يستخدمون منهم المرشدين وبعض المحامين المتخصصين في الدفاع عن جرائمهم ومتابعة من يقبض عليهم.

وشاهدت بعيني أكبر جريمة وقعت من أفرادهم الذين يعيشون في منطقة ” ماسبيرو” في جمعة الغضب يوم ٢٩ يناير، عندما بدأت قوافل المتظاهرين تدخل ميدان التحرير، وهربت سيارات الشرطة بالسير من شارع رمسيس في اتجاه كوبري أكتوبر عكسيا، فإذ بشاب منهم يخرج زجاجة مولوتوف ويلقيها على السيارة، فيحرقها ويهرول الضابط والجندي، فيمسك بهما آخرون، فيضربون الضابط ضربا مبرحا، فلا أنسى دوري في تصويري الحادث وأنزل من أعلى عمارة في المنطقة، وأمسك بالضابط أربت على كتفه ونمسح دماءه وأنصحه بدخول العقار معنا ففضل خلع ملابسه والجري من المكان، وقد تركنا في ألم من أمره.

وشاهدنا بعض هؤلاء وهم ينقضون على المحلات التجارية ثم اتجهون للمتحف المصري ومقر الحزب الوطني فاستنجدنا بالجيش لحماية المتحف ووقفنا لساعات، حتى جاءت بعض القوات لتولي هذا الأمر. وشاهدنا بعض هؤلاء البلطجية يحرقون أقسام الشرطة وخاصة الموسكي والأزبكية، وعندما نسألهم لماذا يفعلون ذلك يقولون نريد حرق ملفاتنا التي تحتفظ بها المباحث. نريد أن نتخلص منهم ومن كل علاقة تربطنا بهم.  هكذا كان انتقام عصابات البلطجة من دولة الضباط التي شاهدتها بعيني وصورت بعض أحداثها التي نسبت بعد ذلك للمتظاهرين.

تسليم الشوارع

فاليوم عندما تعيد الدولة نظاما يسيطر عليه البلطجية المنتشرين في الشوارع، وتجعل من هؤلاء أداة من أدوات السلطة الرسمية في جمع الرسوم والاتاوات على السيارات، فهو أمر خطير.  واعتقد أن الوصف الذي أطلقه أحد كتاب السلطة الكبار في جريدة الأهرام، بقوله: “إن الدولة تتفنن في زيادة احتقان المواطنين وتبحث عما في جيوبهم دون وجه حق، وتبتكر قوانين وتعليمات لا وجود لها على أرض الواقع”، والهجوم الذي قوبل به قانون السايس على القنوات الرسمية والتي تديرها الأجهزة السيادية هو خير دليل على أن الأمر في منتهي الخطورة.

فالنظام سلم شوارع مصر المحروسة للبلطجية الذين فشل في الحد من خطورتهم على مشروعاته في تحديث وسط العاصمة وفي المحافظات لسنوات. فبدلا من مواجهة أفعالهم يمنحهم صكا رسميا بجمع ١٠ جنيهات عن كل ساعة لركن السيارة، بينما خزينة الدولة لا يدخلها أكثر من ألف جنيه شهريا عن الإتاوة المحصلة في حي كامل أو عدة شوارع كبرى. إذن الفساد في الصفقات وطريقة الاسناد لهذه الأعمال ظاهر لكل عين، والمواطن هو الغارم وسيدفع تحت تهديد البلطجي الذي يعمل الآن تحت حماية السلطة وظلال القانون. ربما لا يعرف هؤلاء ما ارتكبه البلطجية في دولة عريقة مثل فرنسا حينما هاجموا وسط باريس منذ سنوات وأطلق عليهم الرئيس ساكوزي لقب ” الأوباش” لأن المسئولين عندنا لا يقرأون التاريخ ولا يعرفون ما يدور حولهم. فعلى هؤلاء المغيبين مراجعة مشاهد حرائق باريس وما فعله البلطجية في ثورة يناير ليعلموا أن تربية الثعابين في أدراج السلطة لتخويف الناس، لن ينالوا منها إلا السم الزعاف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر