داعش وطالبان في الميزان

ظاهرة الغلو والإمعان في التطرف قاسم مشترك في كل المجتمعات، وعند أتباع شتى الديانات، وظهرت فتنتها في الإسلام في عهد الخليفة الرابع أمير المؤمنين على بن أبي طالب، حيث خرج عليه طائفة من أتباعه وكفروه وحاربوه، ثم ارتكبوا جريمة اغتياله، وأصبح تكفير المخالف أو مرتكب الكبائر أبرز ملامح فكر الخوارج، وهو ما تتبناه جماعات التكفير والتفجير التي تُحيي هذه الفكرة بين الفينة والأخرى.

ومن باب رد الفعل لهذا التطرف المقيت في شخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ظهرت فرقة أخرى غالت في قدره وبالغت في منزلته، حتى رفعوه إلى درجة النبي أو جعلوه وصيا عنه، ومنهم من جعله فوق ذلك، كما قال القحطاني الأندلسي في النونية:

واحْفَظْ لأَهْلِ البَيْتِ واجِبَ حَقِّهِمْ/ وَاعْرفْ عَلِيَّا أيَّمَا عِرْفانِ

لا تَنْتَقِصُهُ ولا تَزدْ في قَدْرِهِ/ فَعَلَيْهِ تَصْلَى النارَ طَائِفتَانِ

إِحْدَاهُمَا لا تَرْتَضِيْهِ خَلِيْفَةً/ وتَنُصُّهُ الأُخْرى إلهًا ثانِ

ولما انتهت مهمتهم تبخروا كالعادة وانتقلوا إلى مكان آخر

لكن ثمَ فارقٌ مهمٌ بين تطرف الخوارج النابع من ضعف الفهم وغبش الفكر والانحراف عن جادة الصواب، البعيد عن المطامع الدنيوية أو النزعات العرقية أو الثارات القومية، وبين بذرة التشيع لآل البيت، والخروج على الدولة تحت ستار محبتهم، ومحاولة تقويض أركانها بتصدير الحديث عن مظلوميتهم، والذي بدأ في آخر عهد الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي قُتل على مصحفه على يد شذاذ الآفاق الذين اجتمعوا على دعوة “عبد الله بن سبأ” اليهودي الذي تظاهر بالإسلام، ثم استباح أشياعه المدينة النبوية وعطَّلوا الصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام بعد مقتل عثمان، وكان لهم الدور الأكبر في تعميق هوة الخلاف بين الصحابة، وإفشال كل محاولات الصلح ورأب الصدع.

بقي هذا المشرب الآسن وذاك، يكرع منهما غلاة التكفير والتبديع، وغلاة الطاعة والتقديس، في صور جماعات تكفيرية ومجموعات غالية، وإن لم يتحولوا إلى مسمى “الفرق” بمعناه العقدي، لكن بقيت جماعات التكفير والاستحلال تقتات على فكر الخوارج، وجماعات المدخلية ودعاة ولي الأمر تسحب هالات التقديس والطاعة المطلقة على حكام الجور، وينزلونهم منزلة أئمة الشيعة، فالحاكم هو السيد الملهم والسلطان المسدد، الذي لا يسهو ولا يخطئ، ولا يسأل عما يفعل!

لم تتحد منابع الشر أو تتفق روافد الغلو في طائفة أو مجموعة كما حدث في تنظيم داعش، الذي أخذ عقيدة التكفير والقتل والاستحلال من الخوارج، وتقويض وتفتيت بلاد الإسلام والقيادة المشبوهة والراية العمية من الروافض، وما مُني الإسلام وأهله بطعنة أقسى عليهم بعد فتنة الروافض من فتنة الدواعش، بل ربما تكون فتنتهم -نسأل الله أن يطفئ نارها ويخمد أوارها- أشد وأنكى، لأن الشيعة تميزوا بعقائدهم وانفصلوا بمذهبهم، أما الدواعش فيرفعون راية الإسلام ويذبحون أهله ذبح الأنعام، وحَرَمُوا المسلمين من أهم ما يميزهم، ومن عامل القوة الذي يندر في غيرهم، وهم طلاب الشهادة من أبناء المسلمين، الذين ضللوهم براية الخلافة واستخدموهم باسم الشهادة، فضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، من خلال مخطط ماكر ينفذه قادة التنظيم المخترق، الذي تركزت أعماله على تشويه صورة الإسلام، والعمل على إفشال مشاريع المسلمين، والأمثلة من العراق وبلاد الشام أكبر من أن تعد وتحصى، ويكفي أن نشير إلى أنهم كانوا قدر رمية بحجر من قلب بغداد بعد حصارها، وإذا بهم يقطعون الفيافي والقفار ليشعلوا الحرب قريبا من تركيا في توقيت عصيب، دون أن يتعرضوا لمكروه من طيران الغرب وأمريكا الذي يسيطر على المجال الجوي بأكمله، ثم قاموا حسب الخطة المعدة بإشغال العالم بمنطقة عين العرب (كوباني) في سوريا، ثم فجروا في مطار إسطنبول، ولما انتهت مهمتهم تبخروا كالعادة وانتقلوا إلى مكان آخر، وحاولوا أن يلعبوا الدور نفسه في ليبيا ويخلطوا أوراقها، لكن أهل الفقه والنظر هناك وفقهم الله لجعل إخماد فتنة الدواعش أولى من غيرها من الجبهات.

والذي يؤكد ما سبق، وينقله من مرحلة حق اليقين إلى عين اليقين، ما فعله التنظيم مؤخرًا بتفجير مطار كابل، أثناء المهلة التي حددتها طالبان مع الأمريكان لخروج قوات الاحتلال المختلفة!

‏داعش هي وسيلة الغرب التي يستخدمها عندما يعجز

مسلمات عالم الجريمة تقول إذا أردت أن تحدد الجاني فابحث عن المستفيد، فمن المستفيد من خلط الأوراق الآن في هذه المرحلة الحساسة بعدما أعلنت داعش مسئوليتها عن هذا الحادث؟

لا سيّما مع تحذير أمريكا وبريطانيا لرعاياهم من الاقتراب من المطار، وأن لديهم معلومات عن عمل إرهابي منتظر؟!

‏داعش هي وسيلة الغرب التي يستخدمها عندما يعجز عن تحقيق أهدافه، ولا فرق بين العمالة والجهالة في تحقيق أهداف الغير.

والدليل الآخر على انحراف بوصلة الدواعش المتعمد، أنه من يوم إعلان وجودهم في هذه المنطقة تحت مسمى “ولاية خراسان” -وتعني تاريخيا منطقة أفغانستان وباكستان وإيران وما حولها- لم يتعرضوا للاحتلال الأمريكي بأمر ذي بال أو قتال منظم، وإيران منهم في مأمن، وإنما صوبوا سلاحهم إلى مجاهدي طالبان، وطالبوهم ببيعة أبي بكر البغدادي لا سيّما بعد موت الملا محمد عمر، وكفروا من رفض الدخول في طاعتهم، وقتلوا عددا من جنود طالبان، لكن لم يشكلوا خطرا على الحركة لقوتها وتماسكها، ومخالفتها لهم في المذهب والمعتقد، والمشرب والمسلك.

لا يخفى أن توافد أعداد من داعش سوريا والعراق إلى أفغانستان في الفترة الماضية، يدلل على أن التنظيم المصطنع المخترق يُهيأ لأداء دور جديد على أرض الأفغان، لكن فشل الدواعش في إحداث الفتنة داخل صفوف طالبان في الفترة الماضية، ووضوح رؤية طالبان في التعامل معهم من خلال (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ)، وسياسة طالبان المعروفة في عدم الرضا بأنصاف الحلول، سيجعل تفكيك مفاصل هذا التنظيم، واستئصال الورم الخبيث في مقدمة أولوياتهم، ولا أظن أنهم لم يعدوا العدة لذلك، لأنهم يدركون أن داعش خطر فاحش، وأنهم ذَنَبُ الاحتلال وجزء من مشروعه، وأن من قطع الرأس فلا بدّ وأن يُتبعه الذَنَب.

المصدر : الجزيرة مباشر