ليس تطبيعا.. الطريق نحو الهيمنة الإسرائيلية

التطبيع تحت الماء

لم تكن خطوات الدول العربية المتسارعة في الفترة الأخيرة نحو التطبيع مع إسرائيل سوى تأكيد عملي للاستسلام لهيمنة الاحتلال الإسرائيلي والإقرار بقيادته للمنطقة، بتوجيهات ورعاية أمريكية، وتحقيقا للمصالح والأهداف الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية.

ما حدث ليس تطبيعا، وإن اصطُلح على تسميته بالتطبيع -والذي يعني في أبسط تعريفاته جعل غير الطبيعي طبيعيا، أو إعادة الأمور إلى طبيعتها- ولكنه تحالف بين نظم حكم عربية وتل أبيب لأجل التسليم لإسرائيل والإذعان لها بقيادة المنطقة، كوكيل عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.

تطبيع ودبلوماسية تحت الماء

لم يكن مستغربا ما تداولته المواقع عبر الإنترنت، في 9 أغسطس/ آب 2021، لمقطع مصور تحت عنوان (تطبيع تحت الماء)، يوثق رحلة غطس بالبحر المتوسط في أحد شواطئ فلسطين المحتلة، جمع بين نائب وزير الخارجية البحريني (عبد الله بن أحمد آل خليفة)، برفقة مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية (آلون أوشبيز)، الذي نشر المقطع على حسابه، وعلق بقوله: (من دواعي سروري أن أذهب للغوص مع صديق. لقد انتهزنا الفرصة النادرة لاتباع قواعد دبلوماسية تحت الماء)؟!

وتابع قائلا: (يعرف المرء أنها صداقة حقيقية عندما يكون شريكك في السلام هو رفيقك في الغوص)!

إن أمثال هذه المواقف التي نقلها المقطع المصور تمثل غنيمة من الغنائم المعنوية، التي يحرص دوما المسؤولون الإسرائيليون على استثمارها لكسر الحواجز النفسية لدى الجماهير العربية، التي لا تلتقي مع حكوماتها ومسؤوليها في خطواتهم نحو التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وترفض هذا النهج، ويُعد دعم القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل من الثوابت المتأصلة في الثقافة السياسية والوعي الوطني لدى هذه الجماهير.

وبغض النظر عن (دبلوماسية التطبيع الإسرائيلية البحرينية تحت الماء)، والتي احتفى بها الإسرائيليون، فمملكة البحرين ليست دولة ذات تأثير في محيطها الخليجي والعربي، وبالتالي على المستوى الدولي وهي في توجهها نحو إسرائيل إنما تمثل امتدادا لتوجهات الداعمين لها.

وفي ظل هذا التسابق في مضمار التطبيع، والعلانية في العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي بعد أن كانت في الخفاء، وما تعيشه المنطقة من تعديلات في الأوضاع، فإنه من الأهمية بمكان في إطار معركة الوعي، والتأكيد على الثوابت أن نلقي الضوء على بعض زوايا حقيقة التطبيع، والذي كان أبرز تجلياته الأخيرة (اتفاقيات إبراهام) بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، والتي تقف من ورائها الولايات المتحدة الامريكية داعما ومستفيدا.

  حقيقة التطبيع

منذ نشأة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعبر المراحل المختلفة للصراع بين العرب وإسرائيل، ومنذ اعتلت الولايات المتحدة الأمريكية عرش القوة الأكبر عالميا، لم يسع العرب للتطبيع مع إسرائيل، بل إن إسرائيل هي التي كانت تسعى لهذا التطبيع، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، المستفيد الأكبر من وجود إسرائيل في المنطقة، والتي جعلت من العلاقات مع إسرائيل والحفاظ على أمنها بوابة المرور للحصول على دعم واشنطن، وإقامة علاقات استراتيجية معها ليصبح الوصول إلى قلب أمريكا لا سبيل له إلا عبر الشرايين الإسرائيلية.

وفقا للرؤية الأمريكية والإسرائيلية فإن التطبيع ليس مجرد إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية وغيرها، كشأن العلاقات الندية بين سائر الدول ولكنه يعني دون مبالغة الاستسلام للإرادة الإسرائيلية، بما يشمل مراجعة جذرية للثوابت العربية والإسلامية والتاريخية كافة.

 تعديل الأوضاع في المنطقة العربية

في حديثه لمجلة (الإيكونوميست) اللندنية، في نوفمبر/تشرين الثاني 1982، أعلن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أن “الاعتراف بالدولة الإسرائيلية من جانب منظمة التحرير والدول العربية لن يكون إلا بدايةً عمليةً تعديلا وتنظيما للأوضاع الإقليمية تبعا للإرادة الإسرائيلية”.

بل يضيف بلا مواربة قائلا “إن الخطر الحقيقي في هذه المنطقة سوف يتمركز حول عدم القبول بالإرادة الإسرائيلية”.

ويأتي حرص الولايات المتحدة الأمريكية على تطبيع الدول العربية مع إسرائيل للأسباب التالية:

أولا: إسرائيل تمثل أداة وظيفية، عبر التعاون الاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، والممتد منذ نشأة إسرائيل، وارتبط بما يُسمى قوة الانتشار السريع، فإسرائيل هي رأس حربة الوجود الأمريكي في المنطقة، والممتد في المحيط الهندي، والخليج العربي، والبحر الأحمر.

ثانيا: إسرائيل ذراع أمريكا والغرب وصنيعتهم للسيطرة على المنطقة، وأحد عناصر الأمن القومي الأمريكي هو أن تصير إسرائيل الدولة المسيطرة في المنطقة، بل ويتسع مفهوم الأمن القومي الأمريكي إلى ربط أمنها القومي بوجود إسرائيل، ولذلك أخذت على عاتقها تحقيق التفوق العسكري لإسرائيل على جميع جيوش المنطقة، وأي تهديد لأمن إسرائيل هو تهديد للأمن القومي الأمريكي، ويستلزم التدخل لاستئصال أي قوى أو قيادات رافضة لإسرائيل والوجود الأمريكي الاستعماري بالمنطقة.

ثالثا: الأهداف الإسرائيلية بعيدة المدى تتفق مع الأهداف الأمريكية، فالمطلوب هو تقزيم المنطقة وتحويلها إلى كيانات صغيرة تدور في فلك الأهداف الأمريكية.

وهنا ننقل مع بعض التصرف طرفا مما ذكره أستاذنا الدكتور حامد ربيع -عليه رحمة الله- عام 1983 حيث قال “إن السياسة الأمريكية تعيش أسيرة الأهداف الإسرائيلية التي تبغي تجزئة المنطقة العربية إلى دويلات طائفية، بحيث يسهل التحكم فيها، وتمكين النفوذ الإسرائيلي الاقتصادي، والذي يتستر خلف الشركات المتعددة الجنسية من التوسع، واستيعاب المنطقة”.

ويضيف الدكتور حامد ربيع موضحا أنه من جانب آخر فإن تجزئة وتفتيت هذه الكيانات يسمح بتحقيق هدفين أساسيين:

1- الوجود العسكري باسم حفظ الأمن، وخلق نوع معين من الاستقرار يسمح لقواتها عند اللزوم بالانتشار السريع.

2- السيطرة على المرافق الإقليمية، وبصفة خاصة تلك المتعلقة بالمواصلات والاتصالات والتخزين وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة لقواتها في المنطقة، لو قدر لها أن تشتبك في معركة على قسط معين من الأهمية.

الهيمنة الإسرائيلية وتحويل المنطقة لقاعدة أمريكية

لقد استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية الصراعات الإقليمية لدفع الدول العربية نحو التطبيع، وذلك انطلاقا من مبدأ توظيف العداوات الإقليمية، فالتصور الأمريكي يرى أن الصراعات بين دول المنطقة يمكن إعادة توظيفها لصالح السياسية الأمريكية، ويخلق تحالفا محليا لصالح التحركات الأمريكية.

فعلى المستوى الخليجي استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تستثمر التخوفات الخليجية من النظام الإيراني، وتوظفها لتحقيق استراتيجيتها ولذلك تحرص على بقاء إيران ممثلة للمذهب الشيعي انطلاقا من التوافق مع الرؤية التي ترى أن الخطر الإسلامي على الحضارة الغربية يمكن مواجهته باستمرار الانقسام في العالم الإسلامي بين شيعة وسنة، واستخدام الدول السنية لتحقيق أهداف السيطرة الأمريكية.

ولذلك بحسب اعتقادنا كان الهدف من الوساطة الأمريكية بين قطر والسعودية في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب -الذي تفجرت الأزمة في عهدة وظلت مستعرة طوال فترة حكمه- هو تهيئة الأجواء وتوفير الأرضية المناسبة ضمن ترتيبات إقليمية في المنطقة تسمح بتوسيع نطاق الحركة الإسرائيلية في الخليج، عبر شراكة استراتيجية تندمج خلالها إسرائيل في تحالف إقليمي يجعل الخطر الإيراني هدفا رئيسيا، ويوفر لها فرصة القيام بدور الضامن الإقليمي لأمن دول الخليج، تحت المظلة الأمريكية.

وهذا يحقق النظرية الأمريكية لتحويل الشرق الأوسط إلى قاعدة عسكرية متقدمة، مع ربط المنطقة بوسط أوربا وبوسط المحيط الهندي من ناحية أخرى.

توحيد الشركاء خلف الرؤية الأمريكية

في 15يناير/كانون الثاني 2021 أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن تغيير في “خطة القيادة الموحدة”، حيث تم نقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأمريكية الأوربية (يوكوم) إلى منطقة عمليات القيادة المركزية الأمريكية (سينتكوم).

وقد أشار البنتاغون في إعلانه عن مجالات المسؤولية الجديدة إلى “اتفاقيات إبراهام” الأخيرة بين إسرائيل ودول عربية، باعتبارها فرصة استراتيجية لتوحيد الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات المشتركة في الشرق الأوسط.

تعميق ارتباط النظام العربي بإسرائيل وأمريكا والغرب

يمثل الوجود الإسرائيلي في المنطقة أحد أدوات السيطرة السياسية الأمريكية، وقد عمدت أمريكا والغرب إلى تدعيم وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوسيع نفوذها في المنطقة وذلك لاستخدامها كأداة تهديد لأي قوة عربية، وعلى رأسها مصر، فإسرائيل منذ نشأتها استُخدمت لتحزيم مصر وتفريغ المنطقة العربية من قيادتها التاريخية، بما يتفق مع الأهداف الأمريكية والغربية، والتي ليس من مصلحتها أن توجد مصر القوية القادرة على أن تكتل وراءها دول المنطقة، وهذا ما أشار إليه وحذر منه أستاذنا الدكتور حامد ربيع -رحمه الله- منذ 1983 في إطار استقرائه لأهداف السياسية الأمريكية في المنطقة.

إن التسابق العربي في مضمار التطبيع، يعمق ارتباط الدول العربية بإسرائيل وأمريكا والغرب، ويزيد من ارتباط النظام السياسي العربي بهم، ويعزل نظم الحكم عن شعوبها، ويصب في تحقيق السيطرة الأمريكية والإسرائيلية، وما يتطلبه ذلك من فرض الهيمنة المعنوية على شعوب المنطقة.

الخلاصة

إن توجه الدول العربية نحو التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي هو أحد أهداف السياسة الأمريكية، والتي تلتقي مع الأهداف الإسرائيلية، بغية الهيمنة على المنطقة.

إن اتفاقيات التطبيع الأخيرة، وخاصة اتفاق (أبراهام) مع كل من الإمارات والبحرين، والذي يُعد ثالث اتفاق مع دول عربية منذ نشأة إسرائيل، يتجاوز حدود التطبيع عند قياسه مع التطبيع المصري والأردني، فهو تحالف بكل ما تعنيه الكلمة، ويصب في تحقيق الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة، كما أنه يمثل انقلابا تاما على فلسطين والقضية الفلسطينية.

إن نظم الحكم العربية كلما ازدادت اقترابا من إسرائيل كلما ابتعدت عن القضية الفلسطينية، ولا يصب هذا الاقتراب حتى في تخفيف وطأة الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، ولكنه أسهم في تمكين إسرائيل عبر تحييد الدول المطبعة، وزاد من هيمنتها وتصعيدها في تهديد العالم العربي، ومبادرتها لاستئصال أي مصدر من مصادر التهديد لهيمنتها على المنطقة برعاية أمريكية غربية.

لقد وفر التطبيع شرعنة كان يحلم بها قادة إسرائيل، ووجه الاستراتيجيات العربية نحو الخضوع للإرادة الأمريكية والصهيونية وتطبيق سياسة الاستعمار الجديد، وتسليم إسرائيل مفاتيح الهيمنة وقيادة المنطقة، نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن يبقى حائط الصد الأخير القائم هو وعي الجماهير العربية، التي ما زالت تنظر إلى إسرائيل على أنها عدو وتهديد للأمن القومي العربي، وترفض أي شكل من أشكال التطبيع وتراه طريقا لتأكيد الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.

المصدر : الجزيرة مباشر