نعم… عليك أن تفرح بزيادة سعر الخبز

عاد الحديث عن رفع أسعار رغيف الخبز في مصر للأسبوع الثاني على التوالي. زاد ” الهري” على الطريقة المصرية، لدرجة شغلت الناس عن أنفسهم، ونسوا المكائد التي دبرت لأبنائهم في  نتائج الثانوية العامة، ومشاكلهم اليومية مع ارتفاع الأسعار والتضخم. وسيرا على النهج المصري، أعلنت انضمامي لقوافل” الهري” في المليان التي تتحدث فيما يعني أمر الأوطان، وما يشغل الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولكن عملا  بمبدأ ” الهري مكفول للجميع”، أوكد فرحتي الخاصة باقترب رفع أسعار الخبز. هذه الفرحة لا تعكس موقفا طبقيا  لا سمح الله،   فنحن من الأغلبية الساحقة التي تكدح ليل نهار، لتوفر لأبنائها اللقمة الحلال، تمنحهم راحة البال،  وتغنيهم عن السؤال، والأهم من ذلك أنه بعد ٤ عقود من العمل المتواصل أكتشفت أنني  من شعب آخر يعيش داخل الدولة، لم يحصل  على وظيفة عامة أو تعليم عام للأبناء، وليس له حق التمتع بالخبز المدعوم، بل من أكثر الفئات التي تدفع ما عليها من ضرائب ورسوم،  ولا تملك غير تسليم جيوبها للدولة وأجهزتها لتفعل بها ما تشاء طوعا و كرها.

مع هول المأساة سلم المصريون دولتهم لعسكر المماليك

مع ذلك أراني فرحا برفع أسعار الخبز ليس نقما على باقي الفقراء في مصر، أو شماتة في الحكومة التي أعلنت عن عجزها في مواجهة مستحقات هذا الدعم، ولكن لموقف أخطر من ذلك بكثير. وباعتباري راغبا في الحصول على جائزة ” الهري الأعظم” هذا العام، بعد أن أصبح  من المحرمات بقرارات فوقية، بما يرشح المرء للحصول  على جوائز دولية، من المنظمات  الداعمة لحرية الهري العام في أنحاء الكرة الأرضية، فدعوني أقول لكم يا سادة نعم علينا أن نفرح بزيادة أسعار الخبز، لأنها السبيل الوحيد لأن يصبح الإنسان المصري سيدا على أرضه.

نعم أقول سيدا، لأن المصري لم يتحرر بعد من العبودية التي فرضت عليه قرونا طويلة، بسبب لقمة العيش، المغموسة بتراب الميري. فقديما ظل الفلاح المصري يزرع ويتعب في أرضه، ولا يجني منها سوى الحصرم، ولا يملك التأوه ضد ظلم الحكام لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فظل تحت رحمة فرعون وجنوده لأنهم أهل السلطة والسلطان. تتغير الملوك، وينتهي به الأمر أن يظل عبدا لملك أو محميا من مملوك.. لا فرق في ذلك، في عهد الأسرات أو الامبراطوريات ودويلات الطوائف وعساكر المماليك. ظل المصري عبر التاريخ  عاملا  مجتهدا، لصيقا بأرضه مخلصا لبلده إذا أبعد عنها ضل وإذا ما خالف حكامها ذل، فلا خيار له فيمن يحكمه ولا قول ألا لمن تسيد عليه . من أكبر المهانات التي تعرض لها المصري عبر التاريخ، فترة العسرة المعتصمية السوداء في نهاية عهد الدولة الفاطمية الشيعية التي أغرقت المصريين في بدايتها، بالمهلبية والرز بالمكسرات، حتى اعتاد الناس الغرق في النعيم فنسوا دينهم ورفعوا راية عدوهم، إلى أن ارتد ذلك في نحورهم، بأن غرقت البلاد في الفساد، ولم يعد بها زرع ولا حصاد، فأكل الناس لحوم أولادهم، فإن لم يجدوا فكلابهم وقططهم. مع هول المأساة سلم المصريون دولتهم لعسكر المماليك، وعادوا أدراجهم إلى مزارعهم وبيوتهم يمنحون السلطة كثير المال مقابل حمايتهم والكف عن مناكفتهم.

لذلك لم يكن غريبا أن الحكام يأتون فيمحون حق المصري في امتلاك الأرض التي يزرعها ويقتات عليها، بل يصبح أجيرا، وقد حدث بهم ذلك من قديم الزمان إلى العصر الحديث، حينما أصبح محمد على باشا الكبير المالك الوحيد للأرض وكل من عليها أجيركان أو ناظرا ” التزام.  وقد تتذكرون أن حركة الضباط الأحرار عندما استولت على السلطة وعدت بتسليم تلك الأراضي للشعب فإذا بها تأخذها من الباشا لتعطيها لأبناء البكوات الجدد من أنصار السلطة الجديدة، والسائرين في ركابهم على أنغام بالروح بالدم نفديك يا زعيم، بينما باقي الأرض ظلت تحت وصاية مشروع الاصلاح الزراعي الذي يحتم سداد الفلاح لقيمة الأرض للحكومة، وهو أمر استحال تنفيذه عبر عقود من أغلبية المزارعين الكادحين، بسبب قلة العائد من الزراعة وفقا  لنظام الدورات الزراعية التي فرضتها الأجهزة الرسمية قسرا وجبرا على الفلاحين . ولذلك ظل الفلاح المصري عبدا للقمة العيش التي تأتيه من الدولة رغم أنه الزراع والصانع، ولكنه في نهاية الأمر يسلم ما لديه للسلطة وما عليه سوى قبول الفتات الذي تلقيه عليه. فحكومات يوليو توسعت في دعم الخبز للمواطنين، رغبة في اسكاتهم عن المطالبة بأي  أمور  تتعلق  بالمشاركة في الحكم أو اعتراضهم على الحياة السياسية التي هندست كياناتها وحددت مساراتها. وبلغ تجرأ الزعيم المفدى أن يعاير المصريين أصحاب أكثر من ٧ آلاف سنة، بقوله لهم” أنا علمتكم العزة أنا علمتكم الكرامة” في خطابه بالاسكندرية بعد محاولة الاعتداء عليه في حادث المنشية  الشهير.

لم تخش الحكومات التالية لعبد الناصر أن ترفع الأسعار، بعد أن فشل في الحروب التي اشعلتها شرقا وغربا

هكذا ضاعت كرامة المصري لأن الزعيم المفدى فرض عليهم نظام الوصاية عن طريق الخبز المدعم والملابس والسلع التي توزع عن طريق بطاقات التموين. ظلت  للحكومة فضائل على الناس مقابل فرض الوصاية على الجميع.  لم تخش الحكومات التالية لعبد الناصر أن ترفع الأسعار، بعد أن فشل في الحروب التي اشعلتها شرقا وغربا و عجزت عن ملاحقة طلبات الملايين، وتغير النظام الاقتصادي والظروف الدولية التي تمكنها من اعالتهم . وبينما ظلت بعض السلع الحيوية كالوقود والمياه والخبز تحت وصاية نظام السادات و مبارك  ولو جزئيا، تعامل النظام الحالي مع الأمر بواقعية، وقال أكثر من مرة ” أدفع .. أعطيك”  وفرض ارادته، دون خوف أو تهديد، فسادت في السوق الأسعار العالمية للوقود والمياه والكهرباء والخدمات الرسمية، رغم أن المرتبات لم تشهد تلك الارتفاعات، مع ذلك لا نرى هذا مبررا لبكائيات البعض والمطالبة باستمرار النظام القديم، لأنه ببساطة يمنح النظام صكا أبديا بقبول العبودية مقابل حفنة من الأرغفة .  لا نريد عيش .. حرية.. عدالة اجتماعية فيكفينا دفع قيمة الخبز مقابل السماح لنا بالحرية والكرامة الانسانية. صحيح أن حركة الضباط الأحرار وعدت المصريين بانهاء تلك العبودية سيرا على نهج الثورة الفرنسية بألا ينادي على المواطن إلا  مصحوبا اسمه بكلمة ” السيد ” فلان ولكن هذه السيادة تحولت إلى منحة لقادة النظام فقط، وليس  لباقي أبناء الشعب.  بل عادت الألقاب الباشواية والبكوية، وأصبحت تطلق على النخبة  ثم انحدرت ألقابها باطلاقها على أراذل الناس، وعلى صغار الرتب والموظفين بينما ينادى على ” السيد المواطن” في أفضل الأمور باسمه أو  لمن هم أكبر سنا وقدرا ” ياحاج أو يا  ابني” و في  الجهات الأمنية وما على شاكلتها يا ابن كذاا……. بغض النظر عن إن كنت متهما أو شاهدا. فنحن لم نتحول في نظر ضباط يوليو إلى سادة لأننا لم نتحرر من الدعم  وبخاصة الخبز، بينما الفرنسيون الذين عرفوا المجاعات مع ثورتهم، تسقط عندهم التهم والأحكام  ولو ضد المجرمين منهم، في أي قضايا إذا لم يناد عليهم من قبل  الضباط أو القضاة بلفظ ” السيد ” . فالسيادة جاءت من الشعب وليست منحة من الحاكم. ونعلم أن  لكل  سلعة ثمنا، فإذا كان ثمن الحرية والكرامة يوازي سعر رغيف الخبز فكفى  بها نعمة ، وهو آخر ما في جعبة الحكومة من وسائل  الدعم الثقيل.  أما إذا كان البعض يتخيل أنه سيدفع بلا مقابل فعذره أنه لا يقرأ التاريخ، لأنه يجهل أن من يسكت عن حقه مرة لن يتردد في المطالبة به والدفاع عنه ألف مرة، وها قدأصبحنا ندفع ثمن كل شئ، فلن تضيع بعد كل هذا الغرم، الحقوق والحرية والكرامة للاشئ. فما العيش بمرق وخبز وإنما .. أن يحيا المرء حرا وسيدا…

المصدر : الجزيرة مباشر