صعود طالبان.. يعمّق أزمة الإخوان

ربما لن أكون مبالغا إذ أقول إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ونجاح حركة طالبان في بسط سيطرتها ودخول العاصمة كابل دون قتال يذكر، سيمثل مرحلة مفصلية لها ارتداداتها الإقليمية والعالمية على نحو لم يتبلور حتى الآن وربما يحتاج إلى مزيد من الوقت لتبين ملامحه.

لكن التداعي الأبرز الذي يمكننا تلمسه الآن يحدث داخل الحركة الإسلامية “التنظيمية” وخاصة لدى جماعة الإخوان المسلمين، إذ مثّل صعود طالبان تعميقا لأزمتها، واستجلابا لمزيد من نزيف السمعة، خاصة أنه تزامن مع سقوط الحركة في تونس وانكشاف حركة النهضة على أخطاء كارثية أدت إلى انقلاب رئاسي عليها، رغم أن النهضة لطالما وصفت بأنها الأرجح عقلا والأشد رشدا، لكن بدا للناظرين أن هناك أخطاء كارثية كامنة في جسد وعقل التنظيم، مهما اختلفت البلدان وتعددت الصور واللافتات.

خطأ تفسير نموذج حركة طالبان

اندفعت السرديات الأولى الشارحة والمفسرة للنموذج الطالباني باعتباره امتدادا للجماعات الإسلامية التقليدية، بعض هذه التفسيرات كان محكوما بالجهل بالواقع الأفغاني، والبعض الآخر أراد الفرار من الشعور بالهزيمة التي لحقت به في البلاد العربية فاعتبر أن صعود طالبان إشراق جديد لشمس الإسلام من ناحية بلاد الأفغان!

لكن الحقيقة -ربما أدركها البعض لاحقًا- أن طالبان ليست إلا تجمعا لطلبة العلوم الشرعية قررت خوض النضال بعد فشل قادة الإسلام الحركي التنظيمي في تأسيس دولة مستقرة عقب انسحاب القوات السوفيتية عام 1989 واشتبكوا في معارك ضارية تعرضت فيها كابول لدمار لم تشهده في وجود الاحتلال السوفيتي والحكومات الشيوعية التابعة له.

والمفارقة أن هذه التنظيمات الحركية التي أدارت ذلك الصراع آنذاك كان من بينها منتمون للإخوان المسلمين أمثال برهان الدين رباني رئيس الجمعية الإسلامية وقائده العسكري الشهير أحمد شاه مسعود، إضافة إلى عبد رب الرسول سياف خريج الأزهر وقائد حزب الاتحاد الإسلامي.

فهؤلاء وغيرهم تورطوا في المعارك الأهلية التي تضرر منها الشعب الأفغاني ضررًا بالغًا، ما اضطر طلبة العلوم الشرعية بزعامة الملا محمد عمر إلى التدخل وحسم الصراع.

طالبان ليست جماعة ذات “مانفستو” تأسيسي وأفكار جامعة وأصول عشرين ونظرة استعلائية تصنف نفسها على أنها “المهدي” الذي يسعى إلى أستاذية العالم لتأسيس النظام الإسلامي العالمي، لكنها حركة محلية تنحصر أهدافها داخل حدود أفغانستان ولا تتعداها.

هي قريبة الشبه بالأزهر الشريف، الذي لعب أدوارا مشابهة عبر تاريخه، أبرزها عقب الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 وهزيمة قوات المماليك، إذ انتظمت الثورة في القاهرة بقيادة شيوخ وطلاب الأزهر، حتى لجأت القوات الفرنسية الغازية إلى اقتحام جامع الأزهر وتحويله إلى “إسطبل” لخيولهم.

ثم عاد الأزهر ليشارك بقوة في ثورة 1919 لكن بطريقة مغايرة وكان منبره محركا قويا للثورة والثوار.

هذا التجمع الطلابي الأفغاني هو الذي قاد النضال والجهاد ضد المحتل الأمريكي في الوقت الذي قررت فيها الجماعات الإسلامية التقليدية وفي مقدمتهم الإخوان (رباني-سياف) القبول بالاحتلال والمشاركة في النظام الذي أسسه من خلال البرلمان والحكومات المتعاقبة، بل نظر الإخوان الأفغان بعين الرضا إلى القوات الأمريكية التي خلصتهم من طالبان عدوهم اللدود!

طالبان انتماء إلى الساحة الإسلامية الأوسع بكل ما فيها من تنوعات واختيارات بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، هي تمثيل للتدين الشعبي المتأثر بالبيئة المحلية، وليست المستوردة من الخارج، هم أبناء الجبال والسهول الأفغانية، لذا كان من الصعب أن تفرق بين مقاتليهم وبين عموم الشعب إلا بالسلاح الذي يحملونه.

كيف عمَّق الطلبة جراح الجماعة الأم؟!!

عاش تنظيم الإخوان عشرات السنين في الظل يؤكد لأفراده أنهم الجماعة الأقرب للإسلام، والأحق بالتمكين والاستخلاف في الأرض دون غيرهم.

لذا لم يكن من المتصور أن يرحب التنظيم لأي صعود “إسلامي” من خارج أطر التنظيم الدولي، فرأينا كيف سارعت الجماعة إلى تأييد انقلاب العسكر على التجربة الديمقراطية في الجزائر والإطاحة بجبهة الإنقاذ الإسلامية، واحتفظ الإخوان بمكانة في الحكومات التي شكلها العسكر تزامنا مع العشرية السوداء التي حصدت أرواح آلاف الجزائريين، في سلوك لا يختلف عما فعله حزب النور السلفي المصري عقب انقلاب يوليو/تموز 2013.

لذا كان من الطبيعي أن يمثل صعود طالبان، تعميقا لأزمة الإخوان التي بدأت فعليا مع تفجر ثورات الربيع العربي 2011، وتصاعدت مع الإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي.

فكان السؤال الطبيعي لدى قطاع من منتسبي الجماعة: لماذا انهزمنا وانتصرت طالبان؟ هذا القطاع بدا ساخرا من خيار السلمية الذي اعتمدته الجماعة أو هكذا بدا!

ومن الشعار الذي رفعه المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع “سلميتنا أقوى من الرصاص” ورغم أن قياس الواقع المصري على الافغاني خطأ كبير، إلا أن الجماعة تدفع ثمن فشلها في إدارة المشهد في جميع مراحله، حتى أنها فشلت في تقديم رواية متماسكة لمنتسبيها تشرح أبعاد ما حدث.

البعض الآخر انطلق من نظرة استعلائية، يطالب طالبان بسرعة مراجعة أفكارها، واحتواء أطياف الشعب الأفغاني عبر حكم تشاركي، ومنح المرأة حقوقها..إلخ

والمفارقة أن النصائح ذاتها لطالما وجهت إلى الجماعة فضربت عنها الذكر صفحا، ولم تلتفت إليها.

كما أن طالبان -وكما أسلفت القول- ليس لها فكر جامع يمكن تغييره وتعديله لكنها مجموعة ممارسات يمكن تعديلها بمزيد من الحوار وهو ما نرى بواكيره حتى الآن.

فريق ثالث داخل التنظيم، وجدها فرصة ليذكر العالم أن تفريطه في الحركات الإسلامية المعتدلة، أخرج له أخرى متشددة مثل طالبان، مؤملا أن يكون ذلك بابا يلج منه الإخوان مرة إلى الحكم أو كما قال البعض ربما “يدفع صعود طالبان مجددا -وربما حركات إسلامية مسلحة ومتشددة أخرى- الولايات المتحدة والغرب للعودة إلى صيغة مطلع الألفية الثالثة أي التعامل الإيجابي مع الحركات والأحزاب الإسلامية المعتدلة التي يريد البعض طي صفحتها للأبد.”

وهذا تصور يعكس سذاجة سياسية مفرطة، ويؤكد أن طالبان تمتلك واقعية تفوق ما تملكه الجماعة “الأم” بمراحل

فالنظام العالمي ليس جمعية خيرية تجود بالمنح على الآخرين، فطالبان لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا عبر نضال على مدى عشرين عاما تكامل فيه العسكري مع السياسي عبر مفاوضات شاقة ومضنية.

ورغم التأكيد مرة أخرى على اختلاف الواقع المصري، لكن لا ننسى أن الجماعة فرطت أيضا في الفرص السلمية التي أتيحت لها على مدار السنوات الماضية، على الأقل لتحسين وضعها وتقليل الخسائر لكنها لم تفعل وفرطت فيها بغرابة شديدة!

أما وصم طالبان بالتشدد أملا في ترويج النموذج الإخواني فهي سقطة مريعة تسعى لاغتيال وتشويه أي نموذج للانتصار يأتي من خارج العباء الإخوانية، لتبقى الجماعة وحدها هي النموذج الكامل المبرأ من كل عيب، المنزه عن النقائص، رغم أخطائها الكارثية التي انسحبت على شعوب المنطقة وليس عليها فقط.

بل إذا نظرنا إلى أداء طالبان خلال الأيام القليلة الماضية فقط سنرى أننا لسنا أمام مجموعة متشددة، بل حركة واعية تعرف بالضبط ماذا تريد، فقد سيطرت على معظم الولايات الأفغانية وفي مقدمتها العاصمة كابل دون قتال، في الوقت الذي روّعها منتسبو تنظيم الإخوان وآخرون عام 1992.

كما سارعت طالبان إلى لقاء أعداء الأمس الذين تظاهروا على قتالها برفقة المحتل الأجنبي وفي مقدمتهم الرئيس الأسبق حامد كرازي، وعبد رب الرسول سياف، وعبد الله عبدالله، وقلب الدين حكمتيار وآخرون.

عكس الإخوان الذين أقاموا محاكم التفتيش للجميع، بدءا من خصومهم، وخاصة من كان يقرر منهم في لحظة ما، ترك تأييد السيسي والتحول إلى معارضته، لنفاجأ بالتفتيش في دفاتره القديمة وفضحه بنشر مقالاته وتغريداته القديمة، وصولا إلى حلفائهم الذين نهشوا لحومهم مع أول بادرة اختلاف، وأطلقوا عليهم لجانا إلكترونية لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة!

وكانت فترة حكمهم القصيرة في مصر نموذجا للإقصاء والإبعاد والرغبة في التفرد.

فأيّ السلوكين أحق بالوصف بالتشدد؟! إلا إذا كان البعض في التنظيم ينظر إلى هيئة الأفغاني في زيه الوطني وعمامته التقليدية ولحيته الطويلة على أنها نموذج للتشدد؟! وقد فعلها البعض للأسف الشديد.

إذن على الجماعة ومفكريها التواضع قليلا، وبدلا من مخاطبة طالبان من علٍ، وإعطائها دروسا فيما يجب أن تفعله وما عليها أن تتجنبه، النظر بعين الاعتبار إلى تلك التطورات، والالتفات إلى أخطاء التنظيم الفادحة، التي لا يبدو في الأفق أن لديه الرغبة في مراجعتها، اكتفاء بسردية المؤامرة العالمية!

المصدر : الجزيرة مباشر