الحلم النووي.. بالونات ساخنة.. ورقصات السراب

وزير الكهرباء المصري

عاد الحديث الصاخب عن المشروع النووي المصري من جديد، بعد صمت مريب استمر نحو العامين. في كل مرة تلوك الألسن المشروع بالكلام، عما أطلقنا عليه منذ ربع قرن” الحلم النووي” حيث نفاجئ بأن وراء بعث الحلم من جديد حكاية أخرى. فهكذا اعتدنا أن نرى المشروع النووي ينهار أمام أعيننا منذ ظهر في الأفق عام ١٩٥٥، وكلما علا نجمه خبا نوره، بفعل فاعل. هذه المرة خرجت أنباء على لسان وزير الكهرباء والطاقة في تصريحات رسمية، صدرت في ١٥ يوليوتموز الماضي، تبين أن وزير الكهرباء محمد شاكر اصطحب فريقا من قيادات الوزارة وهيئات المحطات النووية والأمان النووي، ومدير شركة روسا توم” للطاقة النووية لزيارة مقر المحطة المقترحة في الضبعة المصرية.  ونشرت صحفا أخرى تصريحا ثالثا للوزير في اليوم التالي ١٦ يوليو تموز بأنه سيسافر خلال أيام لمشاهدة الاحتفال ببدء تصنيع قلب المفاعل النووي في روسيا. واهتمت الصحف والمواقع التي تديرها أجهزة الدولة بوصف ألكسندر لوكشين مدير” روساتوم” الزيارة بأنها أعادت ضبط العقارب مع الشركاء المصريين، وتحديد الخطوات التالية لإنجاز المهام المستقبلية المحددة”.  بعد هذه الزيارة أذاعت قناة روسيا اليوم، في ٣٠ يوليو تموز بأن رئيس هيئة المحطات النووية المصرية قام بزيارة ناجحة، إلى مصانع الشركة الروسية. أعقب هذا الخبر في اليوم التالي نشر خبر وزع على الصحفيين يبين أن وزير الكهرباء شهد مراسم الاحتفال بتصنيع أول أجزاء المحطة النووية وهو ” قلب المفاعل” في مصانع الشركة الروسية، بحضور رئيسي هيئة المحطات النووية والرقابة النووية والاشعاعية المصريين.

وجاء التوقيع عربونَ صداق للعلاقات المصرية الروسية التي تعرضت لتصدع خطير جراء هذا الحادث

حالة النشاط التي واكتبت تلك التصريحات على مدى أسبوعين لم تتطرق لأهم التطورات التي تتعلق بتمويل المحطة النووية، وهو الأمر الذي توقف الحديث حوله منذ ٧ سنوات. فقد وقعت مصر اتفاقا مع روسيا على انشاء المحطة النووية الأولى بالضبعة قدرة ٤٨٠٠ ميجاوات، يومي ١٩ نوفمبر ٢٠١٥ تشرين الثاني بعد ثلاثة أسابيع من حادث انفجار طائرة الركاب الروسية عقب انطلاقها بلحظات من مطار شرم الشيخ.

وجاء التوقيع باعتباره عربون صداق للعلاقات المصرية الروسية التي تعرضت لتصدع خطير بسبب هذا الحادث، وتسبب في وقف السفر من روسيا لمصر طيلة ٧ سنوات. كان الطرفان في حاجة إلى تقديم شهادة فيما بينهما وللمجتمع الدولي تؤكد حاجة كل طرف للآخر، في ظل أوضاع ملتهبة في الشرق الأوسط والعالم، ونظام مصري، يحاول أن يحصل على دعم سياسي من روسيا والمجتمع الدولي ويبين لهم أنه قادر على السيطرة على مقاليد الحكم وحماية السائحين والمرافق الحيوية بالبلاد.

ولذلك وقع الاتفاق حول مشروع استراتيجي باهظ التكاليف على عجل، رغم أن الحديث حوله استغرق من قبل نحو عامين ونيف ولم يتحرك قيد أنملة. ومع تطورات الأحداث في قضية الطائرة واصرار روسيا على تحمل مصر التبعات الأمنية والتعويضات لحادث الانفجار، راوغ المصريون ببراعة لإبعاد هذه التهمة الخطيرة. وكان الملف النووي الحاضر الدائم في المشهد الإعلامي والسياسي بين الدولتين لملاحقة أي أنباء عن تدهور في العلاقات مع روسيا، اضيف إليه مجموعة من صفقات لشراء أسلحة روسية، تدعم الروح الايجابية بين البلدين. وفي مشهد استعراضي كبير تمكنت مصر من احداث اختراق في ملف العلاقات الروسية المصرية المتدهورة، بما قدمته لهم في سوريا، وشراء لعشرات من صفقات القمح والسلاح، بما شجع الرئيس الروسي بوتين إلى حضور مراسم توقيع الاتفاق النووي في القاهرة في مشهد استعراضي كبير، نهاية ديسمبر كانون أول ٢٠١٧.  في هذا التوقيت تغافل الجميع عن مناقشة الأمور الخلافية التي ظهرت من قبل، حتى لا يفسدوا فرحة الاتفاق. فقد غيرت روسيا تماما طبيعة البرنامج النووي المستهدف مصريا، والذي وضع أسسه خبراء مصريون على مستو فني عالمي، استنبطوها من خبراتهم المحلية والدولية التي اكتسبوها من العمل في البرامج النووية التي عرفتها مصر منذ انشاء جهاز الطاقة النووية برئاسة جمال عبد الناصر عام ١٩٥٥، مرورا بدراساتهم في الخارج، والتجارب الكبرى في الستينيات، التي أوقفتها هزيمة يونيو حزيران ١٩٦٧. وتلي حرب أكتوبرتشرين أول المجيدة حلما نوويا جديدا، حفرت له الولايات المتحدة له قبرا أماتته عام ١٩٧٦، وهو في مرحلة الحوار، ثم اكملت عليه عندما بدأ ينضج كمشروع عام ١٩٨٦، بعد انفجار المفاعل النووي الروسي في مدينة تشرنوبيل التابعة للاتحاد السوفيتي في حينه، مع تقديمها مساعدات مالية عاجلة لمصر لبناء محطات توليد كهرباء تعمل بالغاز والسولار، حتى تنسى مصر هذا المشروع تماما. وأجهض العقيد معمر القذافي كل احلام العلماء النوويين المصريين، عندما سلم قائمة بأسمائهم للمخابرات الأمريكية عام ٢٠٠٣، في إطار صفقة انهاء المقاطعة الدولية لنظامه بعد حادث لوكيربي، لأن نخبتهم حاولت مساعدته في إقامة مفاعل نووي عربي، بعد أن فشلوا في تنفيذه بمصر أو العراق أو الجزائر.

فوجئ العلماء المصريون أن ” الحلم النووي” قد تبخر

وبينما فضلوا تلك المغامرة مع أنظمة فاسدة على أنهم يبيعون خبراتهم في الأسواق الدولية، بدون هدف قومي واضح، في محاولة لتقليد البرنامج النووي الباكستاني، إلا أن جميع الأنظمة العربية خذلتهم. لذلك عندما عاد الحوار حول البرنامج المصري، كان المستهدف الحصول على أفضل تكنولوجيا وعروض تُمكن العلماء المصريين من المشاركة في تنفيذ المشروع بالتعاون مع الشريك الأجنبي. وجاءت العروض منذ عام ٢٠١٣ من الصين وروسيا وكوريا والولايات المتحدة، وغيرها، ودرست كل منها على حدة، وفي نهاية المطاف فوجئ العلماء بأن النظام اختار العرض الروسي في ثوب جديد تماما. اشتمل العرض على اقامة محطة طاقة نووية بنظام تسليم المفتاح في كل المراحل، فلن يكون للمصريين دور سوى المشاركة في اعداد الموقع وتجهيزه وتسليمه للشركات الروسية، التي ستتولى اقامة المفاعل وتشغيله وصيانته وتوفير الوقود، طوال حياته بمراحله الأربعة التي تنتهي بعد ٣٠ عاما من التشغيل.

فوجئ العلماء المصريون أن ” الحلم النووي” الذي استهدفوا من خلاله تطوير الصناعات الطبية والهندسية والزراعية المرتبطة بتكنولوجيا المفاعلات النووية، وتخريج جيل مصري قادر على المشاركة في تصنيع وإدارة المحطات النووية في المستقبل، قد تبخر تماما لأن الروس تمكنوا من خلال الضغط السياسي بعد حادث الطائرة من اختطاف” الحلم النووي المصري” وحولوه إلى مشروع تجاري بحت، أسوة بمشروع محطة ” براكة” الذي نفذته كوريا في دولة الإمارات، بنظام تسليم المفتاح، خلال ٤ سنوات فقط. وعندما وقعت مصر اتفاق المبادئ لتصنيع المحطة النووية مع الشركات الروسية، عام ٢٠١٧، اكتشف العلماء أن الروس يبالغون في تقدير التكاليف، فبينما بلغت التكلفة الكلية للمشروع الإماراتي ـ الكوري المكافئ للمصري، نحو ١٦ مليار دولار، طلبت روسيا ٢٥ مليار دولار. وبينما كان الاتفاق المبدئي يلزم الحكومة الروسية، بتقديم القرض، بدون فوائد لمدة ٧ سنوات هي مدة التنفيذ للمحطة، بفائدة بسيطة لا تزيد عن ٣٪، فإذا بروسيا تغير تلك الشروط، بعد الحصار الغربي المفروض عليها، بعد تدخلها في أوكرانيا واحتلال جزيرة القرم، منذ سنوات، وتطلب موسكو من القاهرة أن تقترض للمشروع من بنك الصادرات الروسي، بما يرفع الفوائد وتكلفة الدين، لتصبح قيمة المفاعل عند تنفيذه نحو ٤٢ مليار دولار.

” الحلم النووي” مهما علت نبرته، مجرد بالونات ساخنة في الهواء

جعل التعسف الروسي في التمويل والشروط الفنية، المشروع النووي تحت رحمتهم، بينما مصر حولته إلى ورقة سياسية لملاعبة روسيا، وقت الأزمات. فكلما سخنت روسيا قضية الطائرة المنكوبة، تطلق مصر أنباء عن المشروع النووي وهو ما حدث الشهر الماضي، دون أن يحرز الطرفان أي خطوات نهائية نحو التنفيذ. فمصر التي كانت تسعى إلى انشاء المفاعلات بسرعة لمواجهة العجز في الطاقة خلال السنوات الماضية، أصبح لديها فائض في التوليد يغنيها عن الحاجة لبناء محطات جديدة، لخمس سنوات قادمة، ومع توافر الغاز الطبيعي أصبحت المحطات الغازية والحرارية أرخص وأكثر أريحية في نفقاتها وتكلفتها الاقتصادية والسياسية. ومع تزايد الديون المصرية بنحو ١٠٠ مليار دولار خلال ٧ سنوات فقط أصبحت تكاليف المحطة النووية الروسية عبئا خطيرا لن يستطيع النظام تحمل أعبائه بسهولة، مع وجود مطالبات من مؤسسات التمويل الدولية بضرورة الحد من الاقتراض الخارجي، لخطورته على أوضاع البلاد اجتماعيا واقتصاديا.

أصبح الحديث عن ” الحلم النووي” مهما علت نبرته، مجرد بالونات ساخنة في الهواء، حيث تطلق نفس التصريحات في كل زيارة، تجرى هنا أو هناك، وقد كان الأولى أن يعلن الاتفاق النهائي حول التمويل الذي لم يتقدم خطوة واحدة منذ ٤ سنوات، أو يحدد الجدول التنفيذي للمشروع، وقد أظهر مشروع الموازنة العامة للدولة للعام الحالي ٢٠٢١ـ ٢٠٢٢، توجيه ٣٤٠٠ مليون جنيه فقط لهيئة المحطات النووية، وهي أموال سيوجه معظمها لتمويل الرواتب واحتياجات التشغيل العادية لهيئة اقتصادية، ذات هيكل إداري ضخم، بينما لم تذكر الموازنة أي قروض أو تمويلات أخرى لهذا المشروع لمدة عام على الأقل.

رغم حالة التفاؤل التي يطلقها الوزير ومن حوله من حين إلى آخر، ستظل في إطار الزيارات الصيفية أو الشتوية للترويح عن كبار المسئولين في البلدين، بينما الحلم النووي مازلنا نطارده كالسراب.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر