صفحات من تاريخ الخبز المصرى

قبل سنوات وقف أحد المسؤولين فى ندوة بمعهد التخطيط القومى قائلا إن هناك إسرافا من جانب المصريين في استهلاك القمح، حتى أصبحت مصر المستورد الأول للقمح في العالم، ورد عليه أحد الأساتذة ممن لا مطامع حكومية لديهم كعضوية مجلس إدارة شركة أو عضوية لجان حكومية تدر عليه دخلا جيدا، وسأله هل تعرف الفرق بين مكونات وجبة إفطار المواطن البريطاني والمواطن المصري؟

وأكمل الأستاذ قائلا إن البريطاني تحتوي وجبة إفطاره على شريحة جبن أو زبد وربما بيضتين ومعلقة مربى وطبقا من السلطة الخضراء، وكوب من عصير الفاكهة أو اللبن، ويفضل البعض منهم تناول شريحة لحم ضمن الإفطار، ولهذا تصبح حاجته للخبز مجرد شريحة صغيرة الحجم منه.

أما المواطن المصرى فليس لديه هذا الترف والتنوع الغذائي، فربما كان لديه طبق من الفول أو الفلافل – الطعمية – والمخلل وأحيانا الجبن أو العسل الأسود أو المش، ومن هنا فهو يعوض ذلك النقص بمكونات إفطاره بالمزيد من تناول الخبز لتحقيق الإحساس بالشبع، ومن هنا جاء الاستهلاك الكبير للقمح!

ولعل نظرة سريعة الى أسعار بعض السلع الغذائية الواردة في بيانات جهاز الإحصاء المصرى عن شهر يونيو حزيران الماضي، نجد سعر كيلو الجبن الأبيض الكامل الدسم 59 جنيها، والحلاوة الطحينية السائبة 40 جنيها وغالبا ما يتم إستهلاك عبوات من الحلاوة الطحينية الأعلى سعرا، والطحينة السائبة 47 جنيها وغالبا ما يتم إستخدام عبوات منها أكثر سعرا، ويصل سعر الفول الجاف 28 جنيها والعدس البلدى 27 جنيها والليمون 26 جنيها.

     3 ارتفاعات سعرية فى 6 عقود

وهكذا فإن سعر أى طعام يتم تناوله مع الخبز ترتفع تكلفته، فلو أراد أن يصنع فلافل ـ طعميةـ  سيجد كيلو الزيت المخلوط لا يقل عن 22 جنيها، بالإضافة لتكلفة الوقود والمكونات، واذا أراد تناول كوب من الشاى مع الإفطار فسعر كيلو السكر 14 جنيها، مما يعجز عن تكلفته الكثيرين خاصة من لديهم عدد من الأطفال، ولهذا يمثل رغيف الخبز التموينى المدعم البالغ سعره خمسة قروش، سندا رئيسيا لتلك الأسر لوجباتها الغذائية بجانب أى صنف آخر من الغموس حتى ولو كان قدرا من المخللات .

وأصبح من النادر وجود اللبن على مائدة الإفطار بعد وصول الكيلو إلى 15 جنيها، أو الجبن الرومي الذي بلغ سعره 107 جنيهات أو عسل النحل الذي بلغ سعره 84 جنيه، أو البيض مع بلوغ سعر البيضة الواحدة 160 قرشا.

ولهذا حرصت الحكومات المصرية على التسعيرة الجبرية لرغيف الخبز البلدي المدعم منذ عقود، لضمان وصوله لعموم المواطنين بسعر مناسب، وظل الرغيف بسعر خمسة مليمات لسنوات طويلة حتى نوفمبر عام 1968 حين زاد السعر الى عشر مليمات – قرش واحد -، وظل هذا السعر ثابتا لمدة 16 عاما، بعد فشل محاولة زيادته عام 1977 وخروج الآلاف فى مظاهرات حاشدة دفعت الحكومة للتراجع عن رفع سعره.

وفى سبتمبرأيلول 1984 زاد سعر الرغيف الى 20 مليما – قرشين -، وظل السعر لمدة ثلاث سنوات حتى زاد سعره الى خمسة قروش فى سبتمبر 1988 وهو السعر السائد منذ ذلك الوقت حتى الآن لمدة 33 عاما.

ورغم تغيير سعر الخبز البلدى ثلاث مرات فقط خلال ستين عاما، فلم يكن تغيير السعر فى كل مرة يتم بشكل فجائي، ولكن يتم بطريقة تهدف لامتصاص الغضب الجماهيري، ففي المرة الأولى حين زاد من نصف قرش الى قرش، تم الإبقاء على رغيف صغير بنصف قرش بوزن من 104 – 107 جرام، وظهور رغيف بلدى أكبر بالوزن بوزن مابين 208 – 214 جرام بقرش، وهكذا لفترة حتى تم توحيد السعر بوزن أقل .

وتكرر ذلك مع رفع السعر الى قرشين حيث إحتاج الأمر عاما لتوحيد سعر القرشين، وفى الرفع الثالث للوصول لخمسة قروش تم إنتاج خبز بلدى من دقيق فاخر استخراج 72 % بسعر 5 قروش كبير الحجم بوزن 160 جرام، مع انتاج خبز ملدن طباقى بسعر خمسة قروش بوزن 135 جراما بدقق استخراج 82 %، وتطلب الأمر عامين حتى تم توحيد السعر فى سبتمبر 1990 بوزن أقل  .

خفض الوزن زيادة سعرية مستترة

لكن الحكومات المتعاقبة لجأت الى وسيلة أساسية لرفع سعر الخبز البلدى عن طريق خفض وزنه، ففي عام 1945 كان وزن الرغيف بالدرهم، وهو ما يعادل من 168 جراما وحتى 206 جرامات للرغيف حسب المناطق الجغرافية المختلفة، حيث يزيد الوزن بمحافظات الصعيد ويقل بالمحافظات الصحراوية وكان الوزن للرغيف في القاهرة والجيزة 187 جراما .

وفى عام 1953 إنخفض الوزن الى ما بين 159 جراما إلى 187 جراما حسب المناطق المختلفة مع تمييز الصعيد بالوزن الأكبر وكان بالقاهرة 171 جراما، وفى عام 1955 إنخفض الوزن الى ما بين 154 الى 176 جراما، وفى عام 1956 إنخفض الى ما بين 130 الى 166 جراما، وفى عام 1965 إنخفض الى ما بين 134 جراما الى 153 جراما، وهكذا تم الخفض فى عهد الإشتراكية ودعاوى إنصاف العمال والفلاحين من قبل الضباط الذين استولوا على الحكم عام 1952 .

وارتبط خفض وزن الرغيف بمساحة قطره التى تراجعت خلال العقود الماضية من ما بين 18 الى 19 سنتيمترا عام 1954، الى 17 – 18 عام 1965 ثم الى 17 سنتيمترا عام 1986 .

ومنذ 1988 أصبح الوزن للرغيف  135 جراما ثم 130 جراما، وفى 2014 وبعد تولى الجيش الحكم أصبح الوزن للرغيف 120 جراما، وفى 2016 انخفض الى 110 جرامات ثم فى أغسطس آب 2020 أصبح وزنه 90 جراما، وهكذا يكون الوزن للرغيف البلدى قد إنخفض من 206 جرامات قبل 76 عاما الى 90 جراما حاليا .

وظلت وزارة التموين تحدد سعر الرغيف ووزنه وقطره وتقوم بالتفتيش على المخابز لمراقبة إلتزامها بتلك المواصفات الى جانب درجة الرطوبة وإستدارة الشكل وعدم التصاق وجه وظهر الرغيف، مع إمكانية شراء أى مواطن الكمية التي يحتاجها من الخبز، مع إصدار قرارات تجرم إستخدامه أو حتى وجوده في مزارع الدواجن والماشية ومصانع الأعلاف.

حتى تم توزيع الخبز البلدى بالبطاقات التموينية لفترة بدون حد أقصى للشراء، ثم من عام 2014 تم تحديد خمسة أرغفة فقط للفرد من خلال كارت الكترونى ذكي خاص، واقتصار الصرف على نحو 71 مليون مواطن من إجمالي 102 مليون مصري.

أسعار بلا سقف بالقطاع الخاص

وللوفاء باحتياجات المواطنين من الخبز سواء من ليس لديهم كروت لصرف الخبز المدعم، أو لاستكمال احتياجات الأسر التى لديها كروت ذكية خبز، تم السماح للمخابز الخاصة فى عام 2008 بإنتاج خبز بسعر 20 قرشا، وفى عام 2009 تم الإبقاء على خبز العشرين قرشا بها مع إنتاج خبز أقل حجما بسعر عشرة قروش .

وبمرور الوقت زاد سعر الرغيف الصغير الى خمسين قرشا، والرغيف الكبير الى جنيه واحد بتلك المخابز، مع ظهور أنواع أخرى من الخبز من قبل شركات خاصة بأسعار أعلى من ذلك في ضوء حرية السوق، ولم يقتصر ذلك على المولات ومحلات السوبر ماركت فحتى الأسواق الشعبية بها أنواع من الخبز ذات أسعار عالية مختلفة يساعد على رواجها مذاقها المميز .

ويمكن من خلال السرد السابق توقع قرارات السلطات المصرية حاليا، التى تسعى لخفض قيمة دعم الغذاء استجابة لمطلب صندوق النقد الدولى ولتخفيف العبئ على الموازنة المصابة بالعجز المزمن، من خلال إنتاج خبز أعلى وزنا بقيمة أعلى لفترة من الوقت، كما فعلت من قبل بحيث يسود السعر المرتفع بعدها، الى جانب إمكانية خفض الوزن للرغيف ولو بقدر صغير.

لكن القضية الأهم فى ملف الخبز المصرى ليست الوفورات المالية التي ستحقق من خفض الدعم أو رضا صندوق النقد، ولكنها تتمثل في الضرر الصحى نتيجة نقص الغذاء لدى ملايين الفقراء الذين لا بديل غذائياً لديهم، والذين لا تفصح السلطات عن عددهم الحقيقي.

وهو نقص له آثاره السلبية على النواحى الصحية والعملية التعليمية وعلى الجوانب الإنتاجية، بل وعلى النواحي الأمنية والاستقرار، وهو ما يجب أن يتنبه له صانع القرار بمصر قبل أن يتسرع فى قرار زيادة سعر الخبز البلدي الذي يمثل غالب قوت عموم المصريين.

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر