الانتقام السياسي في أولمبياد طوكيو!

التفوق والحصول على ميداليات هو الهدف المعلن للأولمبياد دائما، لكن السياسة تلعب دورها بصور مختلفة مستغلة ذلك الحدث الكبير، إما للترويج للنظم الحاكمة، أو في بعض الأحيان الانتقام من نظم بعينها، وهي غالبا النظم الديكتاتورية التي تنتهك حقوق الإنسان.
في أوج الحرب الباردة كان التنافس شديدا بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يعتبرون التفوق الرياضي والحصول على ميداليات الذهب هو بالتأكيد تفوق سياسي وترويج للنظام والأيدلوجية الحاكمة.
ثمة أمر رافق الأولمبياد دائما وهو فرار رياضيين، إما بسبب الخلفية السياسية أو الاقتصادية وهي فرصة يجدها الرياضي مناسبة له للانطلاق نحو الحرية، وبدأ حياة جديدة في عالم جديد قد يستفيد من موهبته بشكل يعود عليه بالنفع من جراء ممارسة الرياضة في بيئة تحتضنه وتقدم له كل أشكال المساعدة.

أعادت قضية “تيمانوفسكايا” تسليط الضوء مرة أخرى على النظام الحاكم في بلاروسيا

العداءة البيلاروسية كريستينا تيمانوفسكايا لم ترغب في العودة إلى بلادها في أولمبياد طوكيو 2021، وطلبت من الشرطة اليابانية التدخل لحمايتها، وطالبت بحق اللجوء السياسي، فهي لديها أسباب سياسية تكمن في عدم رغبتها في العودة إلى بلادها، لأنها قد تتعرض للتنكيل بسبب انتقادها مدربها ومن ثم حرمانها من المشاركة في سباق 200 متر ثم مطالبتها بمغادرة البعثة والعودة إلى بلاروسيا، لكنها قالت بوضوح “إنها لست خائفة من الطرد من المنتخب الوطني، لكنها تخشى أن يعيدوها إلى السجن في بيلاروسيا وإنها قلقة على سلامتها لأن الوضع الحالي ليس أمنا لها في بلاروسيا”.
لقد أعادت قضية تيمانوفسكايا تسليط الضوء مرة أخرى على النظام الحاكم في بلاروسيا والصراع الذي يدور بينه وبين الاتحاد الأوربي، فمنذ أن أعلن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو فوزه بالانتخابات أزعج ذلك الغرب الذي يرى عكس ذلك، وأنه سيطر على مقاليد الحكم بشكل غير ديمقراطي، في حين أن روسيا تراه بشكل آخر فهي تقدم له الدعم الكبير لأنها تراه حليفا وثيقا وعنصرا داعما لها في مواجهة دول حلف الناتو التي تشكل خطرا عليها.
كل من بولندا ودولة التشيك عرضتا على اللاعبة تأشيرة إنسانية لحمايتها من الانتقام، لكن مفاوضات جادة جرت مع بولندا حسمت اللاعبة الجدل  فيها وقررت الانتقال إلى بولندا.
إن هذا يعيد إلى الأذهان مرة أخرى هروب اللاعبين بشكل غير مألوف كنوع من الانتقام السياسي لأنظمة ديكتاتورية، وهذا ما يذكر بلاعبة الجمباز المعجزة نادية كومانتشي التي أحرزت الدرجة النهائية في أولمبياد مونتريال العام 1976 وكان عمرها آنذاك 14 عاما، وقد حصلت وقتها على مجموع 3 ميداليات ذهبية وواحدة فضية وأخرى برونزية، وكان ذلك الفوز تكريما كبيرا لها في بلدها رومانيا، حيث كانت أصغر فتاة على الإطلاق تحصل على هذا التكريم.
لم تكن نادية راضية عن نظام الحكم في بلادها وبدأت التفكير في الهرب، لأنها كانت تحشي غدر النظام الشيوعي الروماني تحت حكم الرئيس نيقولاي شاوشيسكو الديكتاتوري في ذلك الوقت. وقد شجعها على اتخاذ القرار هو فرار مدربها وزوجته بعد أن انشقا عن الحكومة، فأصبحت أكثر اقتناعا بأنها تعيش في بلد يحكمه نظاما استبداديا، وعندما سنحت لها الفرصة عام 1986 وهي مدربة للفريق الروماني، هربت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وهكذا يبدو أنه كلما خمد صراع في منطقة، تجدد في منطقة أخرى من العالم

لا شك أن الصدام بين لوكوشينكو ومن وراءه الداعم الروسي الكبير لسياساته والذي لم يتأخر عن التنديد بفرض العقوبات الأوربية على بيلاروسيا، أعاد إلى الأذهان مرة أخرى أجواء الحرب الباردة، فالرئيس البلاروسي قرردخول الحرب الباردة مع الغرب باستخدام ورقة الهجرة للضغط وتحقيق مكاسب سياسية، فقررفتح الحدو أمام المهاجرين على إثر ذلك الخلاف!
كان لوكاشينكو قد حذر في وقت سابق -ردا على العقوبات الأوربية- من أن بلاده لن تحاول بعد الآن وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين من دول أخرى إلى الاتحاد الأوربي.
فمثلا أصبح متاحا للسوريين والعراقيين السفر بلا أي عوائق إلى بلاروسيا في ظل سياسة الرئيس المنفتحة على الهجرة نكاية في دول الاتحاد الأوربي، حتى إن هناك الآن إعلانات في العراق عن رحلات شاملة الإقامة والتأشيرة بـ800 دولار فقط إلى بلاروسيا، ذلك أنهم ينتقلون بعد ذلك برا إلى ليتوانيا التي ترتبط بخط حدودي طويل مع بلاروسيا بدون رقابة قوية في أجزاء كثيرة منه، ثم الانتقال منها إلى باقي الدول الأوربية.
لمعرفة مدي تأثير قرار الرئيس البلاروسي وتداعياته على دول الاتحاد الأوربي، نعود بالذاكرة إلى الوراء لمراجعة حركة الهجرة في ذلك البلد، نرى أنه في عام 2020 عبر فقط 79 شخصا الحدود، وأغلبهم كانوا من معارضي فيكتور لوكاشينكو. لكن في هذا العام 2021، عبر الحدود من بيلاروسيا إلى ليتوانيا حتى الآن 2500 مهاجر أغلبهم من سوريا وأفغانستان والعراق وأفريقيا، ومعظم هؤلاء جاؤوا خلال الشهرين الأخيرين.

وهكذا يبدو أنه كلما خمد صراع في منطقة تجدد في منطقة أخرى من العالم، ولن يرتاح العالم ويخمد لهيب التوتر والصراع فيه إلا بسيادة العدل واحترام حقوق الإنسان وعدم الانتقام من الناس عندما يكون التعبير هو الوسيلة الوحيدة التي يبدون فيها في من يحكمونهم .

المصدر : الجزيرة مباشر