أردوغان في إفريقيا..ماذا يفعل هناك؟!

أردوغان في إفريقيا

عندما كشفت تركيا عن وثيقة بعنوان” خطة عمل إفريقيا” في عام 1998 لم يلتفت أحد إلى المغزى من ورائها، إلا أنه مع تزايد حجم العلاقات التركية – الأفريقية منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في البلاد، أعتقد الكثيرون أن التحركات التركية، خصوصا في السنوات الأخيرة، تهدف إلى الاستحواذ على مكانة مصر التاريخية في القارة السمراء، نكاية في القاهرة، التي شابت علاقتها مع أنقرة الكثير من المشاكل والخلافات، حتى وصل الأمر إلى حد القطيعة بل والصراع أحيانا.

أردوغان والرقم القياسي لزيارته الأفريقية

ومما زاد من حدة الجدل كثافة الزيارات الرسمية التركية لمختلف العواصم الأفريقية، إذ بلغ عددها قبل جائحة كورونا أكثر من 500 زيارة رفيعة المستوى، وقام الرئيس رجب طيب أردوغان وحده بزيارة 23 دولة إفريقية منذ2014 وحتى 2019 محققا رقما قياسيا في عدد الزيارات الرسمية لمسؤول أجنبي إلى أفريقيا.

تلك الزيارات التي تزامنت مع زيادة عدد البعثات الدبلوماسية لتركيا، التي أصبح لديها 45 سفارة و28 مكتبا للاستشارات التجارية في أفريقيا، إلى جانب ارتفاع حجم التعاون العسكري والاقتصادي والتجاري بينهما، وزيادة حجم المساعدات التعليمية والثقافية والإنسانية، والتدريبات التقنية والتكنولوجية.

هل القاهرة هي المستهدفة؟!

حقيقة الأمر التي تجاهلها الكثيرون أن المسؤولين الأتراك لم يستهدفوا مصر بتلك السياسة، ولم يكن في نيتهم زيادة حجم الخلاف مع القاهرة بهذه التحركات، والدليل على ذلك أنهم اقترحوا أكثر من مرة على المصريين التعاون في كثير من الملفات التي تخص الدول الأفريقية وعلى رأسها الملف الليبي، وقضية الصحراء المغربية، وغيرهما من القضايا الأفريقية، بل ذهب الأتراك إلى أبعد من ذلك حينما أعلنوا عن إمكانية تدخلهم لحل أزمة سد النهضة إذا ما رغبت القاهرة في ذلك، وإنهاء خلافها مع أثيوبيا.

ورغم أن لأنقرة أهدافا متعددة ومتباينة من تنامي علاقاتها مع الدول الأفريقية، إلا أن هدفها الرئيس كان وسيظل مواجهة فرنسا في أكثر مناطق نفوذها السياسية والاقتصادية مع تزايد حجم الخلافات المعلنة بين الدولتين، بسبب تعنت الأخيرة، ورفضها التام لمنح تركيا العضوية الكاملة في الاتحاد الأوربي، وقيامها بتشكيل جبهة مناوئة لذلك تضمها واليونان وقبرص الجنوبية، مهددة بالانسحاب من الاتحاد حال دخول تركيا في عضويته.

ضرب المصالح السياسية والاقتصادية الفرنسية

لتأخذ المواجهة بين الدولتين أشكالا متباينة على الساحة الدولية، وتختار أنقرة القارة الأفريقية تحديدا ملعبا لضرب المصالح السياسية والاقتصادية لفرنسا في مقتل، يدعمها في ذلك الكثير من الامتيازات التي تتمتع بها وتمنحها الأفضلية لدى دول وشعوب القارة السمراء، ومن ذلك :

1 – أن تركيا دولة مسلمة، ومعظم الدول الواقعة تحت النفوذ الفرنسي دول مسلمة، تتوق إلى الخروج من تحت العباءة والهيمنة الفرنسية. وهو الأمر الذي ساعد تركيا كثيرا في التواصل مع الزعماء الدينيين المسلمين في إفريقيا، حيث نظمت لهم ثلاث قمم في أعوام 2006، 2011، 2019 تحت رعاية الرئيس أردوغان شخصيا، وقامت ببناء عدد من المساجد الضخمة في بعض المدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة.

2 – ليس لتركيا إرثا استعماريا في أفريقيا، ولا تحكمها عقلية استعمارية في تعاملاتها مع دول القارة، تلك العقلية التي نهبت الموارد الطبيعية، كالماس والذهب واليورانيوم، واستعبدت المواطنين وارتكبت الكثير من المجازر كما حدث في رواندا.

3 – تختلف نظرة الأتراك للتعاون الاقتصادي والتجاري مع دول أفريقيا عن النظرة الفرنسية لهم، التي تراهم كسوق لتصريف منتجاتها، ومصدر هام للمواد الخام بأرخص الأسعار، وذلك على عكس تركيا التي أصبحت الخيار المفضل لدى الأفارقة كونها توفر لهم الكثير من فرص العمل، والعملة الأجنبية، كما تؤمن لهم التدريب على أحدث النظم التكنولوجية.

إن التحرك التركي صوب إفريقيا كان ولا يزال هدفه الأساسي مواجهة فرنسا، حتى إن المسئولين الأتراك في تقييمهم لتطور علاقات بلادهم مع أفريقيا، وتأثير ذلك على فرنسا هناك، وصفوا الأمر بأن ” أفريقيا تتعافى” في إشارة إلى نجاحهم في تقليص الوجود الفرنسي في كثير من مناطق نفوذه هناك، بينما استشعرت فرنسا حجم الخطر المحدق بمصالحها جراء التحركات التركية، مما دفع وسال إعلامها إلى الحديث عما اسمته ب ” الطموح الخبيث” الذي يجب التصدي له.

شراكة متساوية ومصالح متبادلة

ومع ذلك لا أحد يمكنه أن ينكر أن لأنقرة أهدافا أخرى لا تقل أهمية عن هدفها الرئيس، ومن تلك الأهداف:

1 – تشكيل تحالف تركي – إفريقي لمواجهة ما تسميه أنقرة ب” كبار المستعمرين الجدد في العالم” ولتحقيق هذا الهدف رفعت تركيا شعار” شراكة متساوية، ومصالح متبادلة”.

2 – تأكيد صفة الدولة المركزية صاحبة القرار السيادي في علاقاتها الدولية، بعيدا عن التبعية التي حكمت قرارها وحددت علاقاتها منذ بداية العهد الجمهوري.

3 – تثبيت مكانتها العالمية، من خلال توظيف موقعها الجغرافي، وتطويع اقتصادها، واستثمار علاقاتها السياسية من أجل تبوء مكانة مهمة على خارطة المصالح الدولية، سواء في آسيا الوسطى، أو في منطقة القوقاز، أو في الشرق الأوسط، والقارة الأفريقية.

ومن هذا المنطلق سعت لتطوير علاقاتها الاقتصادية مع الدول الأفريقية، إذ قامت بالتوقيع على اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتجاري مع 51 بلدا أفريقيا، و13 اتفاقية لمنع الازدواج الضريبي، و28 اتفاقية لتحفيز وحماية الاستثمارات، وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة مع 5 دول، إلى جانب تأسيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية الذي يمد جسور التعاون مع 45 دولة، كما أن هناك اللجان الاقتصادية التركية المشتركة التي تعقدٌ لجانها اجتماعات دورية مع 29 دولة.

وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم الاستثمارات التركية في أفريقيا، ووصلت قيمة المشاريع المنجزة هناك إلى أكثر من 70 مليار دولار، وفرت حوالي 110 ألف فرصة عمل عام 2020، رغم إجراءات الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا، والصعوبات اللوجستية.

كما تضاعف حجم التجارة البينية بين تركيا ودول أفريقيا حوالي سبع مرات خلال الثمانية عشر عاما الأخيرة، ليصل إلى 26 مليار دولار في 2019 ،بزيادة 382%

منح دراسية، ومؤسسات تعليمية، وتدريبات دبلوماسية

أما على صعيد التبادل الثقافي فقد سعت تركيا إلى تدشين 145 مؤسسة تعليمية ومركز ثقافي لنشر اللغة التركية في مواجهة اللغة الفرنسية، وإنشاء 18 سكنا للدارسين يتولى الإشراف عليه وقف المعارف التركي في مختلف الدول الأفريقية، إلى جانب تقديم منح دراسة لأكثر من 12 ألف طالب من 55 دولة للدراسة في الجامعات التركية بينهم حوالي 4800 طالب في الدراسات العليا، كما تولت الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية تدريب المئات من الدلوماسيين الأفارقة ضمن برنامج ” التعليم الدولي للدبلوماسيين الشباب” وذلك بالتوازي مع زيادة عدد الرحلات التي تسيرها الخطوط الجوية التركية إلى 58 وجهة في 38 بلدا أفريقيا.

وعلى صعيد المساعدات الإنسانية، الزمت تركيا نفسها بتقديم مساعدات سنوية لأكثر من 35 دولة أفريقية تم تخصيصها لمشاريع التعاون التقني والبرامج والمنح، إلى جانب المساعدات الطبية لأكثر من 20 دولة تشمل الرعاية الطبية وإرسال عدد من الأطباء والعمال العاملين في المجال الصحي لعلاج المرضى، وتقديم الأدوية التي يحتاجونها.

إضافة إلى الدور الهام الذي تقوم به مؤسسة “تيكا” الخيرية، التي فتحت لها حوالي 28 مكتبا في دول القارة الأكثر احتياجا، حيث أصبحت تركيا بفضل ذلك الجهد تحتل المركز الثالث في حجم الأعمال الخيرية بأفريقيا بعد الولايات المتحدة وبريطانيا.

قواعد عسكرية وتعاون أمني لمواجهة الإرهاب والقرصنة

وحلا لمشكلات التوترات الأمنية، والقرصنة، وانتشار التنظيمات الإرهابية وتمددها مما يعيق خطط التنمية الأفريقية، ووفق شعار الشراكة المتساوية والمصالح المتبادلة، سعت تركيا لتقديم مساعدات عسكرية، حيث وقعت معاهدات للتعاون الأمني والعسكري مع كل من الصومال والنيجر ونيجيريا وليبيا والسنغال وتنزانيا، وموزمبيق، وهي الاتفاقيات التي أمنت دورات تدريبية عسكرية لضباط وجنود تلك الدول داخل الأراضي التركية وفي كلياتها العسكرية، وتحت إشراف كبار قادتها العسكريين. وفي مقابل ذلك قامت تركيا ببناء عدد من القواعد العسكرية في بعض تلك الدول كالصومال والنيجر، إلى جانب إشرافها على قاعدة الواطية في ليبيا.

لتضح الصورة الحقيقية للتعاون التركي – الأفريقي، فالدول الأفريقية بحاجة إلى مساعدة تركيا للخروج من الهيمنة الغربية، وتحقيق الأمن والاستقرار، ومكافحة التنظيمات الإرهابيةكي تتمكن من تنفيذ خططها الرامية إلى تنمية مجتمعاتها بعيدا عن استغلال الدول الكبرى لها.

بينما تحتاج تركيا إلى زيادة حجم صادراتها وتوسيع نطاق توزيع منتجاتها،  بما يساعدها في تحقيق رغبتها بتبوء مكانا متميزا لاقتصادها بين الدول العشرة الكبار في العالم، إلى جانب دعم موقفها في المحافل الدولية، لتكون صوت المظلومين وتتولى مهمة الدفاع عن المهمشين من الدول النامية والفقيرة أمام الدول الكبرى التي تفرض دوما سيطرتها، الأمر الذي سيمنحها الفرصة لتغيير هيكل منظمة الأمم المتحدة، وتحقيق مقولة الرئيس أردوغان بأن “العالم أكثر من خمسة” في إشارة إلى عدد الدول التي تدير تلك المنظمة الدولية، والتي لا تمثل في معظمها ذلك الجزء من العالم.

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر