ماهى القوى الخفية التي تُدير السودان؟

صلاح قوش

عندما تتأمل وضعية الحُكم في السودان لن تجد لها أي توصيف جامع، متفق عليه، هل نحن في ظل حكومة ثورة، أم مرحلة انتقالية مفتوحة؟ أم (هبوط ناعم) بين العسكر والمدنيين؟ أم هى حكومة السلام التي تضُم طيفاً من الحركات المُسلحة؟ ليس سهلاً وضع الإجابة الصحيحة في المربع الخالي، والأفضل أن تنظُر إليها كحالة سياسية خاصة أعقبت سقوط نظام المشير البشير، وأفضت بالتحديد إلى، لا معقولية المشهد السوداني.

ثمة جهة ما، لنطلق عليها، السُلطة الخفية، لا تريد للسودان الاستقرار، ولا الاستفادة من مواره الهائلة، تحت الأرض وفوقها، أو تريد توجيهها لمصلحتها، وهى التي تتحكم حالياً في إدارة البلاد، من وراء حِجاب، وما الفاعلون في الظاهر (المكون المدني والعسكري)، سوي مخالب للقط الأسود، يمكن اعتبارها أيضاً، مسرح عرائس، تتلاعب فيه أصابع وخيوط خفية! وهو ما ذكرته حرفياً، الأستاذة عائشة موسى، التي تقدمت باستقالتها من مجلس السيادة مايو/أيار 2021 لذات السبب: ”هنالك قوى خفية تقود الدولة السودانية بعيداً عن شركاء الحكم وتتجاوز الصلاحيات الدستورية“.

فوضى ليست عبثية بالتأكيد، قد تكون خلاقة، وفقاً للمُصطّلح الأمريكي الشائع

تُثير هذه المُلاحظات حالة من الفضول السياسي لمعرفة القوى الخفية، المشار إليها في حديث عائشة موسى، وكتابات أخرى تشي بذات القول. فضلاً على تأكيد حقيقة الفوضى السياسية، التي هى غياب كلي لدور المؤسسات العامة للدولة، من برلمان وصحافة مستقلة ومحكمة دستورية، وجهاز تنفيذي فاعل، ومؤسسة أمنية تؤدي مهامها على الوجه المطلوب، ولذلك نشهد حالة من الاضطراب السياسي والاقتصادي والسيولة الأمنية، وعجز في السيطرة على مفاصل الدولة، مما أفضى إلى انهياره، دون مبالغة.

هى فوضى ليست عبثية بالتأكد، قد تكون خلاقة، وفقاً للمُصطّلح الأمريكي الشائع، خلاقة لأنها تحفظ مصالح الغرب، لا مصالح الشعوب المنهوبة، أي من أجل هدف، سيما وأنها فوضى مُفتعلة، كما تبدو في شكل الصراع داخل الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وداخل القوات المُسلحة، تحديداً بين الدعم السريع والجيش، وتبرز بصورة أوضح في شد أطراف السودان من الخارج، وفوضى في الأسواق، لا تستطيع حيالها أن تضبط منصرفاتك اليومية، دعك من الشهرية، وتهريب الذهب، المورد السيادي، عبر شبكات عابرة للحدود، كلها تُمهد إلى سيناريو ما.

من سمات الحياة العامة في السودان عدم الاكتراث واللامبالاة، كما أنّ المنظومة التي تزينت بالشعارات الثورية ارتدت على عقبيها، وأصبحت رهينة للقرار الخارجي، يُملي عليها ما تقول وتفعل، فأذعنت تماماً لروشتة صندوق النقد الدولي، من رفع الدعم وتعويم الجنيه وتقنين المصارف الربوية، وهرولت نحو التطبيع مع إسرائيل، بل مضت أكثر من ذلك عندما طلبت الوصاية الدولية على السودان، وجاءت بالألماني فولكر بيرتس، رئيساً لبعثة يونيتامس، بصلاحيات واسعة، جعلت منه شخصية محورية في المشهد السياسي السوداني، كما انتقلت الخرطوم فجأة من معسكر مُعاداة الصهيونية والإمبريالية إلى التّعلق بها كغريق يحاصرهُ الموج.

وبالرغم من أنّ السُلطة المدنية الانتقالية في السودان قد اكتست بمسحة يسارية صارخة، إلا أن معظم قادة الحكومة الانتقالية جاءوا من منظمات دولية، أو من المهاجر الغربية، أبرزهم الدكتور عبد الله حمدوك، الذي شغل في وقتٍ سابق منصِب نائب الأمين العام التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا، أما جُل أبطال المرحلة، شيوخٌ وشبابٌ، كما ذكر لي الدكتور حسن مكي في حوار صحفي، وكما هو ظاهر أيضاً، لا صلة لهم بهوية السودان المركزية، حاضنتهم غربية تمويلاً وتنظيماً، ويُريد بعضهم التبشير بأفكار ما بعد الحداثة الغربية، والمجتمع السوداني في مرحلة الصدمة، إزاء أفكار الأنثوية والإجهاض والمثلية وتهويمات الجمهوريين، وسيداو.

ظل الرجل شخصية مثيرة للجدل طوال ثلاثة عقود خلت من حكم الإسلاميين، يعينهم ويعين عليهم أحيانًا

في العام 2013 تسربت وثيقة صادرة من معهد السلام الأمريكي طبختها على نار هادئة عدة شخصيات أكاديمية وسياسية واستخباريتة بالطبع، من بينهم مبعوث البيت الأبيض الأسبق للسودان، برنستون ليمان، تم عنونتها بـ(الطريق إلى الحوار الوطني في السودان) وأشارت صراحةً إلى سيناريو أمريكي يسعى إلى إدخال النظام في مصالحة وطنية تُفضي إلى قيام حكومة ديمقراطية، وفي حال فشل ذلك السيناريو سيتم اختراق النظام من الداخل واقتلاعه عنوة.

كان من أكثر المتحمسين لذلك المشروع مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق الفريق صلاح قوش، المعروف برجل أمريكا في السودان، إذ دخل في حوار مباشر مع واشنطن منذ العام 2005 تحت مقترح “التعاون الاستراتيجي لمكافحة الإرهاب” ومن ثم طَرقّ أبواب الموساد.

لاحقاً وبعد إعادة تعيين قوش مديراً لجهاز الأمن سعى لفتح مغاليق الحوار مع المعارضة السودانية بدعم أمريكا، احتضنت أديس أبابا، أكثر من جلسة سرية منه، بعضها بحضور حمدوك نفسه ورجل الأعمال الشهير مو ابراهيم، وعندما فشل قوش في المهمة الأولى (الخطة أ) دلف إلى (الخطة ب)، والمتمثلة في الإطاحة بالبشير، ليس وحده بالطبع، وإنما اعتمد على التنظيم الأمني للحركة الإسلامية في تنفيذ الخطة، وبحسب تقرير نشره موقع “إنتلجنس أونلاين” مع انطلاق المظاهرت، فإن واشنطن قالت إنها ستستبدل البشير في حال أطاحت الاحتجاجات القائمة بحكمه، برئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني صلاح عبد الله محمد صالح” قوش” لكنه المِزاج الثوري استبعده بعد سقوط البشير.

ظل الرجل شخصية مثيرة للجدل طوال ثلاثة عقود خلت من حكم الإسلاميين، يعينهم ويعين عليهم أحيانًا، حتى أن  شمس الإنقاذ الصفراء الفاقعة وهى توشك على الرحيل في أبريل/نيسان 2019، من وراء نفق اعتصام القيادة، كانت تتوارى شيئًا فشيئًا تحت عدسة نظارته السوداء.

إذاً نستطيع أن نقول أن قوش هو رجل أمريكا في السودان، وكذلك عبد الله حمدوك، وآخرين من دونهم لا نعلمهم، علاوة على أن السباق بين رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان ونائبه حميدتي لنيل رضا أمريكا لم يتوقف، سواء كان ذلك عبر المحور السعودي الإماراتي، أو عبر إسرائيل مباشرة، وهذا التنافس بين أهم أربعة شخصيات حالياً لديها طموحات سياسية، ونفوذ يختلف من شخص إلى آخر، جعل واشنطن، تحظى بخدمات ممتازة، وكلاء من الدرجة الأولى، يخطبون ودها، ومن الدرجة الثانية، يلعبون لصالحها، وربما يتقاتلون جميعهم لحجز المقعد الأول في الطائرة التي ستهبط في المطار الأمريكي، أو العواصم العربية.

ثمة فوضى جزئية أو شاملة تبعاً لرغبة المستفيد من بقاء النظام الحاكم بشكل جزئي تابع له أو تدميره بشكلٍ كامل، ولهذا لم تتحقق الحكومة الانتقالية النجاح المطلوب، رغم التأييد الشعبي الواسع الذي وجدته، إذ إنها تحمل أجندة متداخلة، وتتحالف أحياناً مع المؤسسات والشركات الاستحواذية المستخلصة للثروات، هذه المؤسسات تجعل البلدان الفقيرة تظل فقيرة وتمنعها من المضي قدماً نحو طريق النمو الاقتصادي، وهذه حقيقة ما يحدث اليوم في السودان، ولعل أساس هذه المؤسسات المتحالفة “حلف الكارتيل” قوى خارجية وعسكرية ونخبة سياسية تعمل لأجل إثراء نفسها، واستدامة قوتها وسُلطتها على حساب الغالبية العظمى من الشعب، وهو أمر يبعث على القلق.

لا شك أن الأيادي الخارجية باتت أكثر نفوذاً داخل السُلطة الانتقالية، والتي سلمت زمام أمرها للخارج، وباتت تحت طوع صندوق النقد الدولي والمنظمات الغربية، بعد الموافقة على كل شروطه، فضلاً عن الصراع على البحر الأحمر بين أمريكا وروسيا، وسعى الإمارات لإيجاد موطئ قدم لها في منطقة الفشقة، وميناء بورتسودان، والحضور الفاعل للاستخبارات البريطانية من خلال تحقيق رؤيتهم لإعادة السودان الي بيت الطاعة البريطاني، وأيضاً التحرك الواسع للبعثة الدولية، يونايتمس، داخل أجهزة الدولة، مع بروز مخلب الديك الفرنسي كعنصر فاعل في غرب أفريقيا، وتفعيل المخطط الرامي لاقتطاع دارفور وضمها لمستعمرتهم السابقة في غرب أفريقيا، وهى كلها مؤشرات تدل على أن الحكومة الانتقالية فاقدة للإرادة الوطنية، وخاضعة بصورة كبيرة للخارج .

المصدر : الجزيرة مباشر