ملاحظات على انقلاب تونس

ما حدث في تونس كان انقلابا ولكن بطريقة مبتكرة، فهو عسكري ولكن لم يظهر فيه العسكر علنا إلا تحت غطاء تنفيذ أوامر الرئيس المدني المنتخب، متناسون في ذلك أن البرلمان أيضا منتخب وهو ممثل الشعب مصدر السلطات، ولا يحق للرئيس حله ولا تجميده وأن الفيصل بين الجميع هو الدستور وقرار الرئيس يخرقه بشكل واضح.

وأيضا هو انقلاب مدعوم إقليميا مع أنه لم يظهر فيه الإقليم بأمواله وتحالفاتهم الدولية علنا حتى الآن على الأقل، لكن ظهر بإعلامه المزيف للحقائق، بل والمختلق للأكاذيب والذي يقوم بإضفاء الشعبية والبطولة على أعمال البلطجة والحرق والنهب وخرق القانون التي قام بها خارجون عن القانون ضد مقار حركة النهضة وأحزاب متحالفة سياسا معها.

المدهش أن من قام بالانقلاب على الدستور ومعايير ثورة الياسمين هناك، هو أستاذ قانون دستوري، وهو ثمرة من ثمار ثورة الياسمين.

الحصاد المر

هو انقلاب قديم تمت تسويته على نار هادئة حتى يكتسب زخما شعبيا قبل أن يخرج للعلن، وذلك من خلال تحميل حركة النهضة -التي تمتلك الأغلبية غير المطلقة في البرلمان- بمفردها إعلاميا كل أوزار المعاناة التي يعيشها المواطن التونسي وتعيشها من قبله البلاد، مع أنها لا هى ولا غيرها من أحزاب تونسية لها علاقة بخراب اقتصادي وشيك لبلد عاش لعقود نهبا للفساد والاستبداد وحكم الفرد، فضلا عن قلة موارده الاقتصادية.

ومع ذلك فشلت حركة النهضة وفشلت وسائلها الإعلامية في شرح الحقائق للناس تارة تحت أنها أمور معروفة بالضرورة، وتارة أخرى لاعتبارات سياسية لا ينبغي أن تخرج للعامة، وفي أحيان كثيرة بسبب كثافة الهجوم الإعلامي الكبير الموجه نحوها رأت أنه بالتزامها الصمت تخمد اشتعال النار.

وجراء ذلك ظلت تتناقص شعبية الحركة في الشارع التي بعدما احتلت وحدها نحو 40% من برلمان الثورة “المجلس الوطني التأسيسي التونسي عام 2011” أصبحت تمثل الآن نحو 25%منه فقط ، وهو ما كان يستلزم أن تقوم الحركة بدراسة أسباب هذا التناقص الكبير ووضع حد سريع لوقف تآكل شعبيتها.

هشام المشيشي

ومن عجيب العجائب، أن رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي الذي حاز الغضب الأكبر من قبل المؤيدين لانقلاب قيس سعيد بسبب فشله في تحسين الاوضاع الاقتصادية للبلاد، كان في الأصل من اختيار الرئيس نفسه، وكان مستشارا قانونيا له، وعينه بنفسه وزيرا لوزارة سيادية مهمة كالداخلية، وفي المقابل كانت حركة النهضة من أبرز من اعترضوا على قيامه بتشكيل الحكومة قبل أن ترضخ لضغوط رئاسية لقبول حكومته في البرلمان.

ثم بعد ذلك تبدلت المواقف، ليصير الرئيس ضد المشيشي والنهضة معه مع حدوث متغير مهم للغاية وهو أن الشارع ضاق ذرعا بهذا الانسداد السياسي والفشل الطويل من الحكومات المتعاقبة.

وبالطبع وقوف النهضة مع المشيشي بعدما احترقت صورته شعبيا تسبب في مزيد من التشويه لها، ولم تجنِ جراء ذلك إلا الأشواك.

رغم أن المشيشي أيضا لم يكن أصلا صانعا للفشل في الازمة التونسية بل أنه جاء ورحل والازمة في أوج اشتعالها.

هيبة البرلمان

كما أن عجز البرلمان عن تشكيل حكومة مستقرة متوافق عليها طيلة السنوات الماضية لا تتحمل أوزاره الحركة ذات الأغلبية فقط، بل كتل اخرى كثيرة معها لم ترق إلى مستوى المسئولية وحولت البرلمان إلى ساحة لتحقيق أجندات خارجية ومناكفات خرجت في كثير من الأحيان على حدود اللياقة والأدب والعمل السياسي والتشريعي، وظهر من خلفها التمويل الخارجي.

ومن ضمن هؤلاء النموذج الذي تبنته النائبة بكتلة الدستورى الحر عبير موسي ابنة الدولة العميقة والتي تنتسب لأب كان يعمل في الأمن القومي التونسي، والتي حالت عدة مرات دون أن يلقي رئيس البرلمان كلمته كما حدث في  20 يوليو/تموز 2020 خلال افتتاح جلسة كانت مخصصة للإعلان عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد، وحملت موسي خلالها لافتات تطالب بطرده من المجلس بوصفه “إرهابي”، مرددة داخل المجلس شعارات عدائية بذيئة.

ولأن التسامح المفرط يشجع على التمادي، لم يمسها أحد بسوء على هذه الجرائم، ولذلك لم تتوقف هى عن ارتكاب ذات الجريمة، ما أخل بهيبة البرلمان كثيرا في الداخل والخارج، رغم أن كتلتها البرلمانية لا تشكل سوى 16 نائبا من إجمالي 217 نائبا يمثلون إجمالى عدد نوابه، تشارك النهضة فيهم بنحو 54 نائبا وبأكثر من ضعف هذا العدد كحلفاء من أحزاب أخرى.

استدعاء الجيش

ما يبدو من الصراع الذي يطفو على السطح الآن في تونس أنه لا يزال مدنيا مدنيا، وإن حسنت النوايا فإنه يمكن حله بالطرق الديمقراطية، والخوف كل الخوف أن يتمادى الرئيس في الزج بالجيش في هذا الصراع مستعملا صفته كقائد أعلى للقوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي، وقتها قد يقوم الجيش بالانقضاض على الجميع بما فيهم سعيد نفسه وثورة الياسمين التي أتت به وبالنهضة.

هذا الزج بدت ملامحه بقيام سعيد بإصدار أوامر للجيش بإغلاق البرلمان وبتهديده في الخطاب الأزمة بأن من يطلق رصاصة واحدة سوف يواجه بوابل من الرصاص، ما يعني أن هناك نية لاستدعاء القوة في الصراع السياسي، وأنه من الممكن أن يتحول لصراع دموي لتدخل تونس المدخل إلى دخلته دول عربية أخرى كثيرة.

ما يطمئن الكثيرين أن الجيش التونسي لم يتدخل كثيرا في السياسة وأنه لم يوجه سلاحه لشعبه.

ولكن إغراءات السلطة وذهب المتربصين قد يغري.

المصدر : الجزيرة مباشر