عالم رقمي متوحش.. “الفيس بوك المجرم”

فيلم الاختراق العظيم.

المشهد الأول في الفيلم لمدرّس الإعلام الرقمي وبناء التّطبيقات الذي اكتشف أنّ المعلومات المرتبطة بأنشطة البشر على الإنترنت لم تكن تتبخر وحسب بل تُجمع وتحفظ لتتحوّل إلى قطاع صناعي يكسب تريليون دولار سنوياً.

الأستاذ يسأل: من منكم شعر أنّ مكبر الصّوت يتنصّت على أحاديثه؟

الطّلاب جميعهم رفعوا أيديهم بالإيجاب.

الأستاذ يتوقف عن الضّحك ويشرح “ما يحصل أنّه يتمّ توقّع تصرفاتكم بدقة؛ لذا فالإعلانات التي تبدو دقيقة جداً والتي توحي أنّهم يتجسسون علينا ستكون دليلاً على استهداف الأفراد بنجاح”

طالبة تقول: إنّ الأمر لا يزعجها كونها ولدت في عصر الأنترنت.

متى يكون الأمر مزعجاً؟

يجيب الفيلم عن أسئلة كثيرة فاتحاً الأفق أمام المشاهد ليتعرّف على كم المعلومات الخطيرة التي يتورط فيها من دون حساب وبكامل رضاه.

بداية الحلم كانت إيجاد عالم متصل فيه مساحة يستطيع الجميع مشاركة تجاربهم مع الآخرين، وأيضاً التّخفيف من الشّعور بالوحدة. بالتّدريج أصبح هذا العالم يرتّب المواعيد الغرامية، يقوم مقام مدرّب رياضة شخصي، يرتّب المعلومات ويصنفها، يحفظ ذكرياتنا، يجيب عن الأسئلة المعقدة، يتيح كماً هائلا من المعلومات بيسر وسهولة. وبدل أن نسأل “لبيبة” صرنا نسأل “غوغل”!

تحول الإنسان إلى سلعة

نحن اليوم السّلعة التي يُتاجر بها.

في البداية كانت فرحتنا لا توصف بتلك الهدية المجانية التي قدّمها لنا العالم الرقمي، لدرجة أن أحداً لم يهتم بقراءة الشّروط والأحكام التي تظهر لنا حين نريد إنشاء صفحة خاصة على الفيس بوك. في الغالب نتجاوز الصفحة لشعورنا أن قراءتها ستصيبنا بالملل ونضغط على “موافق”!

تحت المجهر:

إنّنا مراقبون بمجهر يلتقط أدق تفاصيلنا الحياتية.. كل شيء مراقب؛ المنشورات؛ الإعجابات؛ التّعليقات؛ بطاقتك الإتمانية؛ موقعك؛ كلّ المعلومات تُجمع لحظة القيام بها وترفق بالهوية الشّخصية مما يمنح الشّاري إمكانية الدّخول إلى نبض الشّخص العاطفي! يقوم الأشخاص الذين يشترون المعلومات بالتّنافس على “السّلعة” التي هي أنت وأنا وذلك بتزويدك بمضمون مخصص لك ولا يراه سواك.. هذا المضمون الثّابت قام على دراسة مستفيضة تعتمد على معلوماتك المتوفرة على الإنترنت والتي قام بشرائها من أصحاب ذلك المجتمع “أي مارك مالك الفيس بوك”.

في الحقيقة أنت عار تماماً أمام هؤلاء.. يعرفون ما تحبّه وما تكرهه، وما يخيفك وما يسعدك، وماهي حدودك، وكيف يمكن تخطيها. إنّ أسوأ السّيناريوهات حدثت مع التّكنولوجيا وبقيت أسأل نفسي “من يغذي هواجسنا وكيف؟”

مشروع “الأمو” الذّراع الرقمي للانتخابات الأمريكية

عندما بلغ مشروع “الأمو” ذروته كانوا ينفقون عليه مليون دولار يومياً. عمل في هذا المشروع أشخاص من الفيس بوك وغوغل واليوتيوب ليسهّلوا العمل على المنصة الإعلامية. وكان هناك أيضاً شركة تدعى “كامبريدج أناليتيكا” تعمل على مشروع “الأمو” وهي بمثابة العقل ومركز البيانات وعملها هو تحديد الولايات المستهدفة في الانتخابات، وقد ادّعت تلك الشّركة أنّها تملك خمسة آلاف وحدة رصد بيانات عن كلّ ناخب أمريكي! تلك المعلومات كانت مخفية.. إذن السّؤال كيف يمكن إظهار تلك المعلومات؟ تواصل الأستاذ مع خبير رياضيات سويسري يدعى بول أوليفييه ديهاي جوابه كان عبارة عن نظرية تقول: إنّ بيانات النّاخبين الأمريكان تعالج من قبل الشّركة الأم لـ”كامبريدج أناليتيكا” في بريطانيا وهي “اس سي إل”.

استخدم الأستاذ محامياً بريطانياً لرفع دعوى على الشّركة من أجل استرجاع بياناته، وقد اعتبر المحامي أنّ حق استرجاع البيانات من الحقوق العادلة والبسيطة والأساسية؛ لأنّ صاحبها يريد أن يعرف ماذا فعل هؤلاء ببياناته، وذلك سيمكّنه من فهم وتفسير ما جرى مع (فيسبوك، وكامبريدج أناليتيكيا، وترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي) وهذا سيجعله يدخل قلب ذلك الوحش الالكتروني ويفهم داخل النّظام.

بغض النّظر عن رأي أصحاب الشّركة أو المشروع الذي يعتبرونه عملاً إبداعياً مبتكراً.. فقد كانت هناك اختراقات لا أخلاقية حدثت أثناء الانتخابات الأمريكية في عهد أوباما أولاً ثمّ في عهد ترمب. فقد قام الفريق بتحديد الفئة النّاخبة للخصم وركّز نشاطه حولها من خلال دراسة دقيقة واستهداف أدق. كما أوضح المدير العام التّنفيذي للشركة “ألكسندر نيكس”.

انتقل المرشح الرئاسي “تيد كروز” من كونه المرشح الأخير في الانتخابات التّمهيدية ليصبح المنافس الأخير قبل أن يفوز “ترمب” بالتّرشح عن الحزب، يعود السّبب في نجاح كروز إلى البيانات النّفسية والتّحاليل التي أجريت على بيانات الناخبين.

ليس مفاجئاً أنّ العقد تم بعد ذلك بين الشّركة وترمب، عندما انضمت الشّركة إلى حملة ترمب كانت قد أمضت أربعة عشر شهراً في العمل على حملة “تيد كروز” وجمعت كمية هائلة من الأبحاث والبيانات عن النّاخبين، وقدّموها لفريق ترمب! تمكّنت من بناء نموذج يتضمن نحو خمسة آلاف وحدة رصد بيانات لتتوقع شخصية كلّ فرد بالغ في الولايات المتحدة؛ لأنّ الشّخصية هي التي تولّد التّصرفات، والتّصرفات تؤثر على قرار التّصويت.

واستطاعوا التّأثير على الناخبين باستخدام مضمون مصور رقمي مركز. وكانت المفاجأة التّاريخية بفوز ترمب على هيلاري كلينتون التي صوّرتها الدّعاية المضادة بأنّها “لا مبالية وتكذب بطريقة مَرَضية وخطيرة”.

يالها من ليلة، ليلة فوز ترمب التي احتفل فيها فريق ألكسندر نيكس، لقد أحدثت التّكنولوجيا فرقاً وستفعل ذلك لسنوات طويلة قادمة!

بعد تحقيق النّصر في الانتخابات ارتفعت قيمة الشّركة إلى مليار دولار. إنّها ليست شركة بيانات علمية أو شركة خوارزمية إنّها آلة دعائية مكتملة الخدمات.

المثير للدهشة أنّ كمية المعلومات التي يجمعها فريق الشّركة مخيفة ويقدّمها النّاس عن أنفسهم بكلّ بساطة

(إن أردت تغيير مجتمع بشكل جذري عليك بهدمه أولا وعندما تدمّره يمكنك إعادة تركيب قطعه وفقاً لرؤيتك لهذا العالم)

تشكل “ترينيداد” حالة تاريخية من حيث أسلوب تعامل الشركة مع مشاكلها. فيها حزبان أساسيان حزب للسود وآخر للهنود. يتصارعان على السلطة، عملت الشركة لصالح الهنود باستهداف الشباب بزيادة اللامبالاة عندهم من خلال حملة غير سياسية تفاعلية لأنهم كسالى شعارها “كن عضواً في عصابة وافعل شيئاً رائعاً” سُميت الحركة “افعلها! لا تصوت” إنّها علامة مقاومة لكن ليست ضدّ الحكومة بل ضدّ السّياسة والتصويت. جميع الشّبان الكاريبيين السّود لم يصوتوا بينما ذهب الهنود مع أولادهم للتصويت وكسب الانتخابات الحزب الوطني المتحد 6 مقاعد لصالحه. الفارق في التصويت كان 40 بالمئة!

عملوا ذلك في ماليزيا؛ ليتوانيا؛ رومانيا؛ كينيا؛ وغانا.

هذا ما فعله أصحاب الشّركة في دول فقيرة تحكّموا في سير انتخاباتها وتغيير سياستها الدّاخلية والخارجية بالإضافة إلى إثارة النّعرات الطّائفية والتّحريض على القتل مما أدّى إلى ارتكاب مجازر.. هذا قبل أن تبدأ العمل داخل الولايات المتحدة وتتحكّم في مصير الانتخابات وفي خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوربي.

جريمة الفيس بوك

لقد كانت تجربة لا أخلاقية أخذت المعلومات عن النّاس من دون علمهم ومن دون أن يفهموا كيف استخدمت ضدهم فكانوا السّلعة والهدف الذي تغيّر به مجرى الأمور السّياسية في أقوى دولة في العالم. لقد تلاعبوا بنفسية أمة بأكملها لقلب عملية ديمقراطية.

بعد إثارة الأستاذ للقضية، تراجع سهم فيس بوك بنسبة 6،35 بالمئة بما يعادل 120 مليار دولار.

تقول بريتني كايزر (مديرة تطوير سابقة في الشّركة) إنّ لديها أدلة تثبت أنّ حملات “بريكزيت” وحملة ترمب تمّت بطريقة غير قانونية، وإن أكثر الشّركات ثراء هي شركات التّكنولوجيا (غوغل، فيس بوك، أمازون، تيسلا) والسّبب أنّ قيمة البيانات فيها تخطّت أسعار النّفط عام 2017.

لقد أنكر مارك ما نسب إليه من بيع بيانات مجتمعه للشركة، وادّعى جهله بما حدث، وكان واضحاً من ملامحه في جلسة الاستجواب أنّه يكذب!

الحق في امتلاك بياناتك حقٌ من حقوق الإنسان لا يجب التّفريط فيه؛ لذا لا تتجاهل المطالبة بأن تكون بياناتك سريّة وملك لك لا يحق لأيّ كان استغلالها والتّعدي على خصوصيتك.

المصدر : الجزيرة مباشر