هل تتحول أفغانستان إلى ساحة مواجهة تركية إيرانية؟

إعلان واشنطن سحب قواتها من أفغانستان، جاء بمثابة نصر كبير لإيران التي طالما طالبت برحيل القوات الأمريكية عن الأراضي الأفغانية، واستخدمت كافة قواها الناعمة والصلبة لتحقيق هذا الهدف، لما كان يمثله ذلك الوجود من ضغط عليها، ويحد من طموحاتها الرامية إلى توسيع نطاق نفوذها وزيادة حجم تعاونها مع جارتها، بهدف إضافة ورقة ضغط جديدة لرصيدها في المنطقة تضاف لما لديها من أوراق، خصوصا في ظل حدود جغرافية مشتركة بين البلدين تبلغ مساحتها 920 كيلومترا، الأمر الذي يمنحها أفضلية الوجود داخل الدولة الأفغانية الجديدة لحماية مصالحها.

الدخول على مسارات التسوية

وفي هذا الإطار جاء التحرك الإيراني المفاجئ بالدخول على مسارات التسوية هناك، وإقامة مفاوضات علنية مباشرة بين الحكومة الأفغانية وحركة (طالبان) في داخل العاصمة طهران، وهي المفاوضات التي جرت بالتوازي مع مباحثات أفغانية-إيرانية، شارك فيها ممثلون عن الحكومة الأفغانية وطالبان وممثلون عن لجنة متابعة شئون الرعايا الأفغان في إيران مع مسئولين من الخارجية الإيرانية.

لم تكن تلك التحركات فقط هي التي اتخذتها إيران لتحجز لنفسها مكانا متميزا في أفغانستان الجديدة، فقد سبق لها القيام بعدة خطوات استباقية قبل أن تبدأ القوات الأمريكية استعداداتها الفعلية للرحيل، إذ سعت إلى تكوين شبكة صلبة من الموالين لها في الداخل الأفغاني، الذين يمكن استخدامهم لتحقيق مصالحها في الوقت المناسب.

كما اتبعت طهران استراتيجية تعزيز التعاون الاقتصادي، من خلال التوقيع على عدد من الاتفاقيات في مجالات التبادل التجاري والكهرباء والطاقة، الأمر الذي منحها الفرصة للحصول على امتيازات في مجالي صيانة التوربينات والمحولات الكهربائية، وبناء محطات توليد الكهرباء والطاقة، إلى جانب نجاحها في تشكيل مليشيات مسلحة موالية لها من اللاجئين والنازحين الأفغان، خصوصا من أقلية الهزارة الشيعية، إذ أسس فيلق القدس عام 2013 كل من (حزب الله الأفغاني) و(لواء فاطميون) الذي شارك في الحرب داخل سوريا والعراق واليمن، وهو اللواء الذي اقترح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن يتم إلحاقه بالجيش الأفغاني، في إطار حديثه عن الجيش الأفغاني وإعادة تأهيله لمواجهة  التطورات الجديدة التي تمر بها الدولة الأفغانية.

استثمار العلاقات الدبلوماسية لصالح أقلية الهزارة

استثمرت إيران أيضا علاقاتها الدبلوماسية مع دوائر صنع القرار الأفغاني في تصعيد أقلية الهزارة، وفي منحهم الفرصة كاملة للترقي داخل الجهاز الحكومي للدولة، حيث تولى العديد منهم مناصب قيادية في أجهزة الدولة، وداخل البرلمان، وفي القضاء، إلى جانب خوض غمار المعترك السياسي عبر تكوين عدد من الأحزاب مثل “وحدة الشعب” و”الاقتدار الوطني” و”الوحدة”.

ونجحت كذلك في دفع شيعة أفغانستان للحصول على اعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري في الدستور الأفغاني إلى جانب المذهب السني الحنفي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجنب إيران صدور أي قرارات أو سياسات يمكن أن تضر بمصالحها.

كانت تلك الخطوات بمثابة تحركات احترازية لتجنب عدد من الإشكاليات التي تثير مخاوفها، ترتبط بالوضع على الساحة الداخلية الأفغانية، وتخشى من انعكاساتها السلبية عليها، ومن أهمها:

1 –  زيادة اللاجئين الأفغان لديها الذين وصل عددهم إلى ما يقرب من الأربعة ملايين لاجئ وفق ما صرحت به المفوضية السامية للأمم المتحدة الخاصة بشئون اللاجئين، منهم من يحمل جوازات سفر أفغانية، وهناك عدد لا يحمل أي هويات ثبوتية، وهؤلاء الذين فروا خلال فترة القتال بين حركة طالبان والقوات الأمريكية، وكذلك الذين فروا بعد احتدام المعارك بين طالبان والحكومة الأفغانية، وتخشى إيران من استمرار تدفق اللاجئين الأفغان إليها إذا ما حدث فراغ سياسي في البلاد.

2 – إشكالية ضبط الحدود، والتي تعد من أكثر الإشكاليات تعقيدا أمام طهران، إذ تنشط عصابات تهريب المخدرات، حيث تشتهر أفغانستان بكونها أكبر منتج للمواد المخدرة في العالم، وتعاني إيران من تداعيات الجريمة المنظمة جراء ذلك بعد استخدام أراضيها كمعبر للمهربين، الأمر الذي أضر بالمجتمع الإيراني ضررا كبيرا بعد أن أصبح يعاني من انتشار إدمان المخدرات بين أبنائه، وارتفاع الجرائم المرتبطة بها.

3 – زيادة نشاط تنظيم الدولة “داعش” داخل الأراضي الأفغانية، وتتخوف إيران من توسيع التنظيم لنشاطاته انطلاقا من داخل الأراضي الأفغانية بعد خروج القوات الأمريكية، حيث حذر وزير الخارجية الإيراني من خطورة ذلك خاصة وأن هناك عملية نقل لعناصر التنظيم من داخل الأراضي السورية والعراقية إلى أفغانستان تمت بالفعل.

4 – سيطرة حركة طالبان على ثلثي الأراضي الأفغانية، وتوسيع نطاق عمليتها الرامية إلى فرض سيطرتها على المزيد من الأراضي، والتي تشمل معبرين على الحدود الأفغانية-الإيرانية من أصل 3 معابر هما معبرا “إسلام قلعة” و”أبو نصر فراهي”، الأمر الذي يؤهلها لتولي السلطة في البلاد أو على الأقل اقتسامها مع الحكومة الأفغانية، وهو ما يثير قلق المسئولين الإيرانيين نظرا للاختلاف الأيديولوجي بينهما، رغم اتباع الأخيرة استراتيجية “التعاون المصلحي” مع من كان عدو الأمس.

المقترح التركي يسبب إرباك للخطط الإيرانية

إلا أن المقترح التركي الخاص بتولي مهمة تأمين مطار كابل الدولي، الذي ظهر فجأة من العدم، وما يتطلبه ذلك من استمرار وجود قوات عسكرية تركية داخل الأراضي الأفغانية، كان بمثابة مفاجأة غير متوقعة لطهران، التي كانت ترى أن مصلحتها العليا تكمن في استبدال الوجود الأمريكي المقلق، بموطئ قدم لها تمكنها من فرض سيطرتها، والمشاركة في صنع القرار الأفغاني، حتى تتلافى ما يمكن اعتباره تهديدا لأمنها القومي.

ومن هذا المنطلق يمكن فهم حالة الإرباك التي سببها المقترح التركي للخطط الإيرانية في تعاملاتها مع الوضع داخل الدولة الأفغانية الجديدة، إذ إنها لم تضع في حسبانها إمكانية حدوث ذلك الأمر، خصوصا في ظل الرفض المطلق الذي تبديه طالبان لمسألة الوجود العسكري الأجنبي على الأراضي الأفغانية، حتى إن الخارجية الإيرانية لم تصدر أي تصريح يحدد موقفها الرسمي من رغبة أنقرة تلك، إلا أن ذلك لا يعني أنها ترحب بالأمر أو تقبل به.

فالتصريحات التي صدرت عن الرئيس الإيراني المنتهية ولايته حسن روحاني، أوضحت مدى القلق الذي يمثله الوجود التركي في أفغانستان للمسؤولين الإيرانيين، إذ شدد روحاني على ضرورة أن تلعب “كل من إيران وباكستان، باعتبارهما الجارتين الأهم والأكثر فاعلية لأفغانستان، دورا في إدارة عملية السلام في هذا البلد من خلال التعاون والتضافر”.

حصر اللاعبين الأساسيين على الملعب الأفغاني في طهران وإسلام أباد، من وجهة النظر الإيرانية يشير بوضوح إلى الشعور بعدم الارتياح لمسألة المشاركة التركية في الملف الأفغاني، خصوصا وأن تركيا اشترطت مشاركة باكستان والمجر معها في حال تمت الموافقة على بقاء قواتها في كابل.

إذ تخشى طهران تحديدا من حدوث توافق تركي-باكستاني، وهو ما يمثل تحالفا سنيا يصب في صالح حركة طالبان ويؤمن لها فرصة ذهبية للتوسع والتمدد داخل الأراضي الأفغانية على حساب الحكومة، بهدف تفادي زيادة حدة النزاع المفتوح بين الجانبين، الأمر الذي سيمنحها الحق في الحصول على حصة أكبر في التشكيلة السياسية الجديدة، وهو ما تعتبره طهران تهديدا حقيقيا لها، ولأقلية الهزارة الشيعية، حتى وإن امتلكت علاقات جيدة مع الحركة.

تضارب الأجندة التركية مع الأهداف الإيرانية

فإذا كانت إيران تسعى من خلال زيادة نفوذها في أفغانستان لحماية لأمنها القومي، وتوسيع نطاق التعاون التجاري معها وإيصال منتجاتها إلى أسواق آسيا الوسطى باعتبارها منفذها الوحيد لذلك في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، إلى جانب رغبتها في حماية أقلية الهزارة الشيعية.

فإن تركيا لديها أجندة مختلفة تماما، فرغم أنها ليس لديها حدودا جغرافية مشتركة مع أفغانستان إلا أنها تمتلك علاقات وأواصر عرقية وثقافية مع الأوزبك أحد أهم العرقيات الأفغانية، كما أنها دولة إسلامية ويحكمها حزب إسلامي محافظ، الأمر الذي يمنحها القدرة على إقامة علاقات قوية مع عناصر المجتمع الأفغاني الرسمي والمدني، ومع جميع الإثنيات العرقية والفصائل الموجودة هناك بمن فيهم المعارضة.

وتتمثل أهداف أنقرة ليس فقط تقديم خدمة لواشنطن مقابل موافقتها على وجهة النظر التركية في عدد من الملفات والقضايا الإقليمية محل الخلاف بينهما كما يعتقد البعض، لكنها تهدف إلى تعزيز نفوذها في منطقة أسيا الوسطى التي تراها امتدادا ثقافيا وعرقيا طبيعيا لها أعاقته الجغرافيا، وهي الإعاقة التي يمكن تفاديها في حال أصبح لها وجودا فعليا ونفوذا داخل أفغانستان، الجارة الملاصقة لجمهوريات آسيا الوسطى، التي تعتبرهم تركيا أشقاء لها في اللغة والثقافة والعادات الاجتماعية المتوارثة عن الأجداد.

كما أن وجودها في هذه المنطقة من العالم يعزز من قوتها كدولة لها امتدادات خارج نطاقها الجغرافي، مثلما فعلت من قبل مع كل من ليبيا واليمن، بما يخدم مشروع الرئيس أردوغان الذي يطالب بإصلاح الأمم المتحدة، وتوسيع نطاق مجلس الأمن، وزيادة عدد الدول دائمي العضوية به، وهو المشروع الذي يطلق عليه أردوغان مصطلح “العالم أكثر من خمسة” في إشارة إلى الدول دائمة العضوية بالمنظمة الدولية، إذ تسعى تركيا إلى الحصول على مقعد دائم لها في المجلس باعتبارها ممثل عن شعوب العالم الإسلامي والدول النامية.

توافق مرحلي أم صراع وتنافس

ولهذا الغرض سعت تركيا لإجراء حوار مع كل من إيران وأفغانستان بهدف طمأنتهما من أن وجود قواتها ليس هدفه الاحتلال، وإنما المشاركة الفعلية في تعزيز عملية سياسية شاملة يقودها الأفغان أنفسهم، تؤدي إلى عودة الاستقرار للأراضي الأفغانية، بما يؤهلها للعودة مرة أخرى إلى المجتمع الدولي كدولة تتمتع بالأمن والأمان.

فهل توافق طهران على وجهة النظر التركية، وتقتنع أن الوجود العسكري التركي في أفغانستان لا يعني تنافسا معها على النفوذ، ولا يمثل تهديدا لخططها بأي حال من الأحوال، وأن التعاون بينهما ولو مرحليًا من شأنه أن يصب في صالح جميع الأطراف بمن فيهم أفغانستان أم أنها ستسعى جاهدة لعرقلة تنفيذ المقترح التركي، وستتصدى بكل ما لديها من إمكانات لإخراج الجنود الأتراك من منطقة تعدها واحدة من مناطق نفوذها التاريخية، ولا يحق لأحد منافستها فيها، وهو ما سيعني حال حدوثه انتهاء مرحلة المصالحة التركية-الإيرانية فعليا، وبدء مرحلة الصراع والتنافس بين الحليفين، حيث ستكون أفغانستان وقتها هي ساحة المواجهة بينهما.

المصدر : الجزيرة مباشر