اتفاقية إسطنبول.. لماذا انسحب أردوغان؟.. ولماذا أعلنوا الحرب عليه؟!

كانت المعايير الأوربية هي الهدف من التوقيع على الاتفاقية

منذ إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان انسحاب بلاده من اتفاقية المجلس الأوربي لمناهضة الاعتداء على المرأة والعنف المنزلي، المعروفة باسم ” اتفاقية إسطنبول “. وهو الانسحاب الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من تموز/ يوليو الجاري، والحرب ضده في تصاعد مستمر داخلياً وخارجياً.

إذ تلاقت مصالح الجميع، واتفقوا على استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب سياسة لهم على حساب معاناة المرأة التركية، بغض النظرعن إن كان موقفهم سيمنع ما تلاقيه من عنف يصل في كثير من الأحيان إلى القتل والتعذيب والاختفاء. فالمهم هو إزاحة العدالة والتنمية عن السلطة.

أهداف أردوغان من وراء قرار الانسحاب

يدرك أردوغان جيدا المخاطر التي تحيط باتخاذه قرار الانسحاب من الاتفاقية، وما قد يثيره من جدل، لكنه قرر الإقدام على تلك الخطوة وتحمل عواقبها كاملة سعيا لتحقيق عدة أهداف مهمة، تتمثل في :

1 – تلبية مطالب قاعدته الانتخابية، المنتمية في معظمها للتيار الإسلامي المحافظ، الرافض لبنود الاتفاقية منذ إقرار البرلمان لها عام 2012، وذلك في إطار تحضيراته للانتخابات المقبلة.

2 – تفتيت جبهة أحزاب المعارضة ضده، وكسر تجمعاتها التي تحاول بكل جهدها إزاحته وحزبه عن السلطة في البلاد، عبر إحداث انقسامات بينهم حول تلك الخطوة، نظرا لاختلافاتهم الإيدولوجية، التي لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها.

3 – التأكيد على سيادة القرار التركي، وعدم الخضوع لأي إملاءات خارجية فيما يخص القضايا الداخلية، التي لا يحق لأحد التدخل فيها بأي شكل من الأشكال، وتحت أي ظرف من الظروف.

الاستجابة لمطالب القاعدة الشعبية

ورغم أن الاتفاقية تضم 81 مادة وتنقسم إلى 12 فصلاً، ويأتي هيكلها متوافقا مع اتفاقيات المجلس الأوربي حيث ترتكز على أربع أسس هي منع العنف ضد المرأة بكافة أشكاله وأنواعه، وحماية الشهود من الاعتداء عليهم من جانب الجناة، ودعم الضحايا وتوفير أماكن آمنة لاستضافتهم، ومحاكمة المجرمين أمام القضاء، وتوقيع عقوبات رادعة عليهم، محددة مجموعة من الجرائم التي توصف بكونها عنف ضد المرأة ومنها العنف النفسي والترصد، والعنف الجسدي بما فيه الاغتصاب، والزواج القسري، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والإجهاض الإجباري، والتعقيم القسري، إضافة إلى إخضاع التحرش الجنسي لعقوبات جنائية صارمة، وكذلك الجرائم التي ترتكب ضد الشرف، والاستغلال الجنسي للأطفال تجاريا.

إلا أن الإسلاميين والمحافظين رفضوها بسبب المادة الرابعة فيها، التي تنص على أنه يجب ضمان تنفيذ الأطراف المعنية لأحكام الاتفاقية وخاصة حماية حقوق الضحايا دون تمييز على أساس النوع أو الجنس أو العرق أو اللون أو الميل الجنسي أو الهوية الجنسائية، كونها من وجهة نظرهم، تضر ضررا بالغا بالقيم العائلية المتوارثة

فالإسلاميون والمحافظون رفضوا تلك الاتفاقية لكونها من وجهة نظرهم، تضر ضررا بالغا بالقيم العائلية المتوارثة، وتشجع على العنف، وتقوض الهيكل الأسري، وتناقض عادات وتقاليد المجتمع، وتدعم المثليين من خلال رفضها التمييز على أساس التوجه الجنسي، وهو ما قد يسمح لاحقا بزواج المثليين.

وفي هذا الإطار اعترف حزب العدالة والتنمية، على لسان نعمان كورتولموش نائب رئيس الحزب، إن قرار التوقيع على اتفاقية إسطنبول كان قرارا خاطئا منذ البداية، كونها لا تتوافق مع قيم ومبادئ الدولة التركية، ولدعمها قضيتي الميول الجنسية والنوع الاجتماعي، الأمر الذي يعطي مساحة من الحرية يتم التلاعب بها من قبل مجتمع الميم ( وهو مصطلح يقصد به مجتمع المثلي الجنس ومزدوجي الجنسية والمتحولين جنسيا). وإن التراجع عنها الآن هو بمثابة تصحيح لذلك الخطأ، يحسب للحكومة ولا يعيبها.

ومن الواضح أن العدالة والتنمية حينما وافق على التوقيع على تلك الاتفاقية المشبوهة كان مضطرا لذلك تحت ضغط التنازلات المطلوبة منه للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ومع زيادة قوة تركيا على الساحة الإقليمية وتنوع علاقاتها، وصعود نجمها، مقابل تراجع فرص قبول عضويتها ضمن المنظومة الأوربية، تحولت مصالح الحزب إلى جهة أخرى، وأصبح يولي اهتماما بالغا للجبهة الداخلية لتقوية نفوذه، بعيدا عن الحسابات الخارجية.

 كسر ائتلاف المعارضة، والحد من خطره

وعلى صعيد أحزاب المعارضة فقد اكتفى على باباجان زعيم حزب الديمقراطية والتقدم بانتقاد توقيت الانسحاب من الاتفاقية والصلاحيات المخولة للرئيس اردوغان خارج نطاق البرلمان، دون الدخول في تفاصيل البنود التي استند عليها قرار الانسحاب.

بينما نأى زعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو بنفسه عن الدخول في ذلك الصراع المحتدم كونه كان الداعم الأكبر، والدافع الرئيس وراء موافقة الرئيس على تلك الاتفاقية، بصفته كان مستشارا سياسيا لأردوغان في رئاسة الوزراء.

وأعلن حزب السعادة الإسلامي المحافظ موافقته على قرار الرئيس ودعمه المطلق له، معتبرا أن الاتفاقية تدمر مفهوم الأسرة وتعزز المثلية الجنسية في المجتمع، وتتخفى وراء مكافحة العنف ضد النساء.

لتنقسم جبهة المعارضة الموحدة، ويتبقى فقط حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة وحليفه حزب الجيد، اللذان وجدا أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة جديدة لحزب العدالة والتنمية من خلال شحن النساء ضده، وتحريضهن على الخروج عليه بما يضمن إضعاف شعبيته، الأمر الذي سيصب في صالح خسارته لكتلة لا يستهان بها من الأصوات في أية انتخابات مقبلة، خصوصا وأن نسبة النساء في المجتمع التركي تبلغ 49.9% من عدد السكان، أي ما مجموعه حوالي 42 مليون امرأة، لأكثر من 33.26% منهن الحق في التصويت.

ساعيين في معظم تصريحاتهما للنيل من شخص الرئيس الذي اتخذ هذا القرار، واصفين إياه بأنه يمثل الرجعية الإسلامية في أبشع صورها، ويحمل على عاتقه مهمة قهر المرأة وتكريس عداوة المجتمع ضدها، والتشجيع على سحقها وتدميرها، ومعاملتها بكل عنف وقسوة لكسرها والحد من تطلعاتها، بهدف إخضاعها لسطوة الرجل وقيادته، تلبية لمطالب الجماعات الإسلامية المحافظة التي دعت إلى التخلي عن تلك الاتفاقية منذ دخولها حيز التنفيذ عام 2014.

كما اتهموه بمخالفة الدستور، لتعارض قراره الرئاسي مع نص الفقرة الخامسة من المادة 90 بالدستور، التي تنص على أن الاتفاقيات الدولية تخضع لتصرف القانون، وعلى أنه ” لا يمكن تغيير القوانين بموجب قرار رئاسي، كون ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام مرحلة غير قانونية”..

مطالبين مجلس الدولة بإلغاء قرار الانسحاب من الاتفاقية، كما توجهوا بشكوى لكل من المحكمة الدستورية ومجلس شورى الدولة، بحجة أن العدالة والتنمية تجاوز صلاحياته الدستورية.

بينما هددت قيادات معارضة بتصعيد حملات اللجوء إلى الشارع لمواجهة ذلك القرار، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة ، وهي المنظمات والجمعيات التي يتلقى معظمها دعما ماليا من الاتحاد الأوربي، الذي يحركها ويحدد لها أجندتها، وما يجب عليها إثارته من قضايا وملفات.

الاتحاد الأوربي واستمرار سياسة الكيل بمكيالين

وهنا نأتي للعنصر الخارجي في الحرب المستعرة على حزب العدالة والتنمية، وهو الاتحاد الأوربي الذي يدير دوما معاركه مع أردوغان من خلف الستار، لكنه قرر هذه المرة الخروج للعلن، وتوجيه انتقادات لاذعة لقراره الانسحاب من اتفاقية إسطنبول، رغم قيام المسؤولين الأتراك بإيضاح موقفهم الكامل من الاتفاقية وأسباب انسحابهم منها، وتأكيدهم على أن هناك الكثير من المواد التي يضمها كل من القانون الجنائي والمدني وكذا القانون رقم 6284 المتعلق بحماية كيان الأسرة، ومنع العنف ضد المرأة، بجانب النصوص التي يحويها دستور البلاد، ناهيك عن أن تركيا طرف  في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، إلى جانب الخطوات التي اتخذتها الحكومة خلال السنوات القليلة الماضية لتحسين حقوق المرأة.

واعترافهم بأن المسألة ليست في قصر التشريعات القانونية، لكن المشكلة تكمن في آليات التنفيذ وعملية تأهيل الكوادر المنوط بها تنفيذ القانون سواء بالنسبة لرجال الشرطة، أو الموظفين العاملين في مجال الخدمات العامة.

لكن ذلك لم يجد نفعا، إذ تجاهل الجميع تلك الأمور، وبادروا إلى شجب القرار، ووصفوه بأنه تراجع جديد فيما يخص ملف حقوق الإنسان، وأنه لا يمكن القبول لا بالتقاليد الثقافية ولا الدينية ولا غيرهما من الأعراف مبرراً لتجاهل العنف ضد المرأة، متهمين الحكومة التركية بازدراء القانون، وتراجع حقوق الانسان.

تناقض مواقف الدول الأوربية

الغريب في موقف دول الاتحاد الأوربي أن لا أحد منهم تحدث عن موقف عدد من الدول كاملة العضوية في الاتحاد نفسه التي رفضت حتى اليوم التوقيع على تلك الاتفاقية، وهي بلغاريا، وسلوفاكيا، وتشيكيا، ولاتفيا، والمجر، وليتوانيا، كما لم ينتقدوا موقف البرلمان المجري الذي رفض الموافقة على الاتفاقية في أيار/ مايو الماضي، ولا موقف البرلمان السلوفاكي الذي رفض المصادقة عليها أيضا في مارس/ آزار 2019، معللا ذلك بتضارب بعض بنودها مع التعريف الدستوري لديهم للزواج باعتباره رابطا بين شخصين من جنسين مختلفين.

كما لم نر تصريحا لأي مسؤول أوربي ردا على انتقاد وزير العدل البولندي للاتفاقية التي قررت بلاده الانسحاب منها، واصفا إياها بأنها ” بدعة ” واختراع نسوي يهدف إلى تبرير أيدولوجيا المثلية الجنسية، الأمر الذي يمثل ضررا على الأطفال في المدارس حيث تفرض على الدول الموقعة عليها ضرورة تعليم الصغار لديها معنى التنوع الاجتماعي والقبول به. لكنهم سارعوا إلى انتقاد الموقف التركي، ورفعوا راية حقوق الإنسان في وجه التفسيرات التي قدمها المسئولون الأتراك، الذين لم يتراجعوا عن قرارهم.

ماذا حقق أردوغان من قرار الانسحاب؟

ليكون أردوغان بذلك قد حقق أهدافه كاملة من وراء ذلك القرار، إذ نجح في استعادة نسبة لا يستهان بها من الناخبين الإسلاميين والمحافظين، وضمن دعم عدد من الأحزاب الصغيرة له في الانتخابات المقبلة، مثل حزبي “السعادة” و”الرفاه الجديد”، كما استطاع تحييد كل من حزبي “المستقبل” و “الديمقراطية والتقدم” في تلك المعركة، بينما بقي حزبا الشعب الجمهوري والجيد يغردان منفردين على الساحة.

أما فيما يخص الاتحاد الأوربي، فقد وضع أردوغان قياداته أمام أنفسهم، وفضح ازدواجية معاييرهم، وتوظيفهم مصطلح ” حقوق الإنسان” ضد الدول التي لا تخضع لإملاءتهم، دون الأخذ في الاعتبار مصالح ذلك الإنسان الذي يتحججون دوما بالدفاع عن حقوقه، وهم أول من يسحقه، وينهب حقوقه.

وعلى الصعيد الشخصي استطاع الرئيس أردوغان التخلص من تداعيات ذلك الخطأ الفادح الذي وقع فيه حزبه، وأزاح عن كاهله عبئا ثقيلا، ووصمة عار كانت ستظل تطارده وتشوه صورته وتاريخه إلى الأبد.

المصدر : الجزيرة مباشر