أنا الشّعب..كلب السّت

أم كلثوم

في مقابلة تلفزيونية مع الشّاعر الشعبي الفذ أحمد فؤاد نجم قال عبارة صادمة عن سيدة الغناء العربي أم كلثوم ووصفها بأنّها “السّلطة” ووصف نفسه بـ “الشّعب”.

وبالرغم من عشقي لأم كلثوم إلاّ أنّ حديث أحمد فؤاد نجم عنها جعلني أقف بجانب “الشّعب” وهو مكاني بالطّبع طيلة عمري، فلم أخضع قبل الآن لسلطة مهما كانت ولم أمالئها.

المفارقة بأنّ أم كلثوم التي تداولت السّلطة في عدّة عهود أوّلها في عهد الملك فاروق وآخرها كان عصر السّادات غنّت للشعب بجميع فئاته.

فلم يقتصر عشّاقها على أولاد الذّوات بل تجاوزتهم إلى عموم فئات الشّعب، يسمعها المثقف والأمي؛ أصحاب المهن البسيطة ورؤساء الدّول والحكّام والمخابرات والسّلطة التي هي أحد أركانها. كان دور أم كلثوم الفاعل في الحروب يعادل دور السّلطة بأكملها فقد كانت تجمع التّبرعات وتلعب دوراً أساسياً في دعم المجهود الحربي، وتغني لتستنهض الهمم ودورها هنا أعظم في رفع الرّوح المعنوية لدى الجنود وثباتهم في القتال. منذ حرب فلسطين حين غنّت “أصبح عندي الآن بندقية”.

الغريب أن يجتمع اثنان على طرفي نقيض على استنهاض همم الشّعب في سبيل قضية واحدة لكن من منظورين مختلفين. فقد كان دور “نجم” نقد السّلطة وتوضيح ما يحدث في الواقع من هزائم تحوّلها السّلطة إلى انتصارات ليستمر “العسكر” في حكم البلاد. وعوقب نجم بالسّجن؛ لأنّه يرى الحقائق ولا يخفيها، بينما بقيت أم كلثوم سيدة في الغناء والدّولة.

غنّت أم كلثوم: “أنا الشّعب” حتّى ليظن المرء أنّ أم كلثوم كانت تصف نفسها وكأنّها في لحظات التّجلي تماهت مع الشّعب فأصبح ماثلاً في شخصها.

ها هي الشّعب.. هي المرأة الرّيفية التي غنّت في الموالد وتتلمذت على أيدي قرّاء القرآن ثمّ أصبحت المطربة المفضلة لدى الملك الذي منحها نيشان الكمال من الدّرجة الثّالثة الذي يُنعم به الملك على سيدات العائلة المالكة. وكان ذلك بسبب التّغيير الذي ارتجلته أم كلثوم بحضور الملك لأغنية يا ليلة العيد حين قالت “يا نيلنا ميتك سكر وزرعك في الغيطان نوّر يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد” والأصل غنّته أم كلثوم في فيلم دنانير “يا دجلة ميتك عنبر وزرعك في الغيطان نوّر يعيش هارون يعيش جعفر ونحيي لهم ليالي العيد” والمقصود في الأغنية هارون الرشيد ووزيره جعفر.

أنت فين والكلب فين

ما رواه أحمد فؤاد نجم في قصيدته “كلب السّت” حكاية مؤلمة بالتّأكيد يعرفها كلّ المصريين وإن لم يسمع بها باقي العرب من عشاق أم كلثوم وأحمد فؤاد نجم وأنا منهم. لم أسمع الحكاية إلاّ من زمن قصير عندما شاهدت اللقاء التّلفزيوني مع الشّاعر.

الحكاية لمن لا يعرفها أنّ الشّاب إسماعيل كان يتمشى أمام فيلا أم كلثوم ويقرأ في الجريدة، لم ينتبه للكلب الذي هجم عليه وعضه وأسال دمه، اجتمع البوابون وتشاجروا معه وذهب الجميع إلى قسم الشّرطة حيث احتجز إسماعيل وأفرج عن الباقين وفي السّجن ذاق الأمرين من السّجناء والسّجانين وعند التّحقيق أقرّ بأنّه ارتكب خطأ وقال للمحقق: “من يدري لعلّ الكلب تسمم مني!” وقد أعجب المحقق بكلام إسماعيل. أفرج عن إسماعيل الذي اعتذر من حضرة الكلب.. وعلى حدّ قول أحمد فؤاد نجم في ذلك الحوار أنّ أم كلثوم لم تعوّض الفتى ولم تهتم بالموضوع مطلقاً وتركته للمحقّقين وأنّ الفتى أصيب بعطب قضى على مستقبله. أجمل ما جاء في القصيدة “هيّص يا كلب السّت هيص لك مقامك في البوليس / بكرة تتألف وزارة للكلاب ياخدوك رئيس”.. يظهر واضحاً الفارق في المكانة بين الإنسان والكلب حين يكون الكلب في موقع السّلطة.

الكلب فوكس والمحققون ابتداء من الشّرطة التي قبضت على إسماعيل، وانتهاء به نفسه حين حكم على نفسه بأشدّ مما حكم عليها السّجانون والمساجين والمحققون والكلب. كلّ هؤلاء كانوا يؤدون أدوارهم في تمتين وتثبيت حكم العسكر الذي يملك البلاد والعباد.

على طرافة القصيدة التي كتبها أحمد فؤاد نجم فيها تلك الحكاية إلاّ أنّها تظهر كم الألم والتّسلط والعنف وقيمة البسطاء التي لا تساوي عند -السّلطة- قرشاً. فقدر هؤلاء أن يكونوا وقود الحرب، ووقود النّزاعات المتوحشة لدى الجلادين والمخابرات، وأن يعيشوا حياتهم على الهامش ويموتوا بصمت من دون أن يسمع لهم صوت. وهذا القدر ليس قدراً من الله وإنّما هو قدرٌ تقرّره السّلطات وتزرعه عبر منهجية طويلة الأمد عبر أذرعها الثّقافية والإعلامية والدّينية ليبقى المواطن البسيط في حالة كدح دائم ومستمر وأقصى ما يمكنه فعله إزاء المصائب والكوارث التي تحلّ به أن يقول في نفسه: حسبي الله ونعم الوكيل قدّر الله وما شاء فعل. دون أن يدري ما يُخطط له.

أنا الشّعب أنا الشّعب لا أعرف المستحيلا ولا أرتضي بالخلود بديلا  

ستبقى أم كلثوم خالدة لأزمان طويلة، وسيبقى أحمد فؤاد نجم المدافع عن الحق.. ممثلين للسلطة والشّعب والأداة التي تحاول الأنظمة الحاكمة استمالتها واستخدامها في لعبة الحكم وإخضاع الشّعوب وتخديرها.

 

المصدر : الجزيرة مباشر