سرية الوثائق.. وتكرار الهزائم

القدس في يوم الهزيمة (وكالات)

في الذكرى الرابعة والخمسين لهزيمة يونيو/حزيران 1967، نشرت محطة بي بي سي البريطانية عبر موقعها وثائق سرية جديدة تتعلق بتلك الهزيمة تضمنت مناقشات مجلس الوزراء والمخابرات البريطانية حول تطورات الحرب، ومواقف الأطراف المختلفة، بينما لا تسمح السلطات المصرية حتى اللحظة بالإفراج عن الوثائق الرسمية والمخاطبات والتعليمات والبيانات الخاصة بالمخابرات ووزارتي الحربية والخارجية والرئاسة المتضمنة لخطط الحرب وتطور عملياتها القتالية والاتصالات مع القوى الدولية في حينها.

وإزاء هذا التعتيم القهري على وثائق تلك الفترة فليس أمام الكتاب والمؤرخين سوى اللجوء للوثائق الأجنبية وخاصة البريطانية والأمريكية وحتى الإسرائيلية المتعلقة بتلك الفترة، وكذا المذكرات الشخصية لعدد من القادة العسكريين والسياسيين الذين صنعوا تلك الأحداث، وما ينتجه كل ذلك من قراءات واستنتاجات تختلف من كاتب أو مؤرخ إلى آخر.

بحسب القانون رقم 472 لعام 1979 فإن المدة القصوى لسرية الوثائق هي 50 عاما، ويلزم القانون الجهات الرسمية بتسليم وثائقها بعد مرور 15 عاماً على تاريخ إنشاء الوثيقة، ويقوم فريق من دار الوثائق بالتعاون مع الوزارة المعنية بفهرسة الوثائق وتحديد مدد السرية الخاصة بكل وثيقة وتتراوح في الغالب تلك الفترة ما بين 15 إلى 25 أو 50 عاماً بحد أقصي.

لم يقتصر الأمر على التعمية المتعمدة على هزيمة يونيو رغم مرور أكثر من نصف قرن، ورغم وفاة كل قادتها والمسؤولين المباشرين عنها تقريبا، ولكن الأمر امتد لحرب أكتوبر 1973 والتي هي ليست هزيمة على كل حال، وإن اختلفنا في مستوى النصر الذي تحقق، فرغم مرور 48 عاما على تلك الحرب إلا أن الوثائق العسكرية والسياسية المتعلقة بها لا تزال حبيسة لدى وزارة الدفاع والمخابرات، ( كان يفترض أن تسلم وزارة الدفاع تلك الوثائق لدار الوثائق عام 1988 لكنها لم تفعل) وليس متوقعا أن يتم الإفراج عنها حتى بعد مرور 50 عاما (الحد الأقصى للسرية) بعد عامين، والمفارقة ان المخابرات المركزية الأمريكية أفرجت عام 2013 عن 400 وثيقة تتعلق بحرب 1973 تضم تقارير يومية وتقديرات موقف ومحاضر اجتماعات فريق الأمن القومي الأمريكي لمناقشة الموقف.

من حقك عزيز القارئ أن تستغرب وتندهش لهذا الإصرار على حجب تلك الوثائق رغم مرور الحد الأقصى لسريتها

ستندهش عزيزي القارئ إن علمت أيضا أن وثائق انقلاب يوليو 1952، وما تبعه من صراعات بين أسلحة الجيش المختلفة ومحاولات الانقلاب العديدة التي جرت خلال تلك الفترة، وكذا الوثائق الخاصة بالصدام بين ضباط يوليو 1952 والإخوان المسلمين، لا يعرف الشعب عنها شيئا إلا من خلال مذكرات بعض القادة والضباط، وكذا الوثائق المتعلقة بعلاقات الدولة الخارجية في تلك الفترة منذ عام 1952 وحتى الآن، بما في ذلك الخطط التي وافق عليها ضباط يوليو للتعامل مع القضية الفلسطينية، واقترابهم من الاعتراف بإسرائيل، وموافقتهم على توطين الفلسطينيين في سيناء أو مديرية التحرير، وقمعهم لمظاهرات الفلسطينيين الرافضة لذلك  منذ العام 1953( طبعا المواقف تغيرت تماما بعد ذلك إلى عداء صريح مع الكيان الصهيوني).

من حقك عزيز القارئ أن تستغرب وتندهش لهذا الإصرار على حجب تلك الوثائق رغم مرور الحد الأقصى لسريتها وفقا للقانون، ورغم غياب المسؤولين المباشرين عن الأحداث التي تضمنتها تلك الوثائق، ولكن هذه الدهشة ستزول حين تعرف أن الكيان المسؤول عن تلك الأحداث ( بحلوها ومرها) لا يزال هو الحاكم لمصر، أقصد هنا المؤسسة العسكرية، أذرعها الأمنية التي تعتبر الإفراج عن تلك الوثائق خطرا داهما على الأمن القومي، والحقيقة إنها خطر على سمعتها التي بنتها على كثير من الأكاذيب التي سوقتها عبر إعلام الصوت الواحد أيضا، ولم تسمح للحظة واحدة للشعب بمعرفة الحقيقة التي كانت لتغير قناعاته ولتغير تلك الصورة الوردية.

الفرصة الوحيدة التي أتيحت أمام المصريين لمعرفة حقائق وأسرار تاريخهم، كانت عقب ثورة 25 يناير التي نص دستورها الصادر في 2012 في مادته السابعة والأربعين ولأول مرة على حق الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، ومساءلة من يمتنع عن ذلك قانونا، وتطبيقا لذلك الدستور فقد شرعت وزارة العدل تحت الوزير المستشار أحمد مكي في إعداد مشروع قانون للوثائق والمعلومات، شارك فيه مناقشته خبراء ومختصون، وكل المعنيين بمجال المعلومات، وقد شاركت شخصيا في تلك المناقشات على رأس وفد للمجلس الأعلى للصحافة في حينه، وكان هذا المشروع في حال إقراره كفيل بتحسين وضع مصر بمقدار 11 درجة على مؤشر الشفافية العالمية، لكنه كتشريعات أخرى لم ير النور بسبب وقوع انقلاب الثالث من يوليو 2013.

ورغم تعديل الدستور المصري مرتين في 2014 و2019، إلا أن النص على حق المعلومات ظل قائما (من بقايا مكتسبات ثورة يناير الدستورية)، لكنه ظل نصا معطلا مثل غيره من نصوص الدستور باستثناء تلك الخاصة بتعديل مدد الرئاسة، وصلاحيات الرئيس، وتوسيع دور المؤسسة العسكرية!!، وحين شرعت الحكومة في تقديم مشروع قانون جديد لإنشاء الهيئة العامة للوثائق القومية والمحفوظات وفقا للنص الدستوري فإن هذا المشروع -الذي لا يزال يتنقل بين ردهات مجلس النواب- قد فرغ النص الدستوري من مضمونه مجددا حين منح في مادته 16 استثناءً من التطبيق لرئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع والخارجية والداخلية وهيئة الرقابة الإدارية والمخابرات العامة ومجلس الأمن القومي ومجلس الدفاع الوطني.

الإصرار على إخفاء الوثائق الرسمية رغم مرور عقود طويلة عليها لم ينجح في إخفاء حجم الهزائم والكوارث التي وقعت، لكنه نجح في تشتيت الروايات حول الأسباب ونجح في حماية الكثير من المجرمين من المحاكمات العادلة، أو التقييم التاريخي الصحيح لهم، كما أنه سيتسبب في حدوث المزيد من الكوارث لهذا الوطن ولهذا الشعب دون حساب.

المصدر : الجزيرة مباشر