الوجه الآخر للمفاوضات الوهمية لسد النهضة!

رئيس وزراء إثيوبي السابق أثناء التوقيع على اتفاقية المبادئ (مواقع التواصل)

حصرت مصر آمالها في مفاوضات سد النهضة المستمرة منذ عشر سنوات في مطلب وحيد وهو استجداء إثيوبيا لتوقيع اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة دون التطرق لحجم السد البالغ 74 مليار متر مكعب.

وعندما أعلن رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، عن أن الملء الثاني للسد سيكون في يوليو/تموز المقبل، قال السيسي إنه يأمل في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم. ورغم أن تصريح أحمد كان مبنيا للمعلوم ومحدد التوقيت، فقد رد السيسي بتهديد مبني للمجهول، فقال إن أحدا لا يستطيع المساس بحق مصر في مياه النيل، ولا أحد يستطيع أن يأخذ قطرة ماء من مياه مصر، ومن يريد أن يجرب فليجرب.

أحمد لم يأخذ قطرة ماء من مياه مصر، ولم يغترف غرفة بيديه، بل احتجز 4.5 مليار متر مكعب في الملء الأول من مياه مصر. ورغم أن الدواب على ضفاف النيل، من أسوان إلى دمياط ورشيد، تعرف أن أحمد احتجزها جهارا نهارا ودون إذن أو اتفاق، فقد تم التراجع بالقول إنه لا يهدد أحدا وإن التفاوض، وليس الحل العسكري، هو خيار مصر ومعركتها الطويلة الشاقة للوصول إلى إتفاق قانوني ملزم لضامن أمن مصر المائي.

مضاعفة إثيوبيا حجم السد تمت بعلم المفاوض المصري ولأسباب سياسية بعيدة عن التنمية وتوليد الكهرباء

وبعيدا عن وجهة النظر القاصرة عن إدراك متطلبات الأمن المائي المصري، فإن التفاوض على “حجم خزان السد” وتخفيضه إلى 14 مليار متر مكعب، وهو الحجم الذي أعلنه في أبريل/نيسان سنة 2011 رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل والأب الروحي للسد المثير للجدل، ميلس زيناوي، عند وضعه حجر أساس السد وكشفه لأول مرة عن نية بلاده بناء سد على مقربة من الحدود السودانية، هو الضامن الوحيد لأمن مصر المائي، والكفيل بتقليل أثار السد الكارثية على الحياة الإقتصادية والإجتماعية والبيئية في دولتي المصب. أما التفاوض على الملء والتشغيل مع التسليم بالحجم العدائي للسد، وهو 74 مليار، فهو تهديد وجودي لمصر. ومهما طالت سنوات الملء، بتوقيع اتفاق أو بسبب تعثر البناء، فلا يعني ذلك إلا تأجيل وقوع الكارثة ريثما يكتمل البناء.

مضاعفة إثيوبيا حجم السد تمت بعلم المفاوض المصري ولأسباب سياسية بعيدة عن التنمية وتوليد الكهرباء، ذلك أن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، اتهم في مذكرة رسمية إلى مجلس الأمن في الأول من شهر مايو العام الماضي حكومة إثيوبيا بالمبالغة في سعة سد النهضة، وقال إنها قامت بتغيير المواصفات الفنية للسد ورفعت قدرته التخزينية من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا، وأن الزيادة الهائلة في حجم خزان السد غير مبررة وتثير تساؤلات بشأن “الغرض الفعلي من السد واستخداماته المتوقعة”، وأن هذا الحجم يزيد بشكل هائل من تأثيراته السلبية المحتملة على الاستخدامات في دولتي المصب.

وقال شكري إن إثيوبيا خططت لبناء سد سُمي “سد الحدود” في الموقع الحالي لسد النهضة، وفي عام 2007 أجرى المكتب الفني الإقليمي لشرق النيل، والذي يضم في عضويته مصر والسودان وإثيوبيا، دراسة لمشروع السد المزمع بعنوان “دراسة جدوى مسبقة لمشروع الطاقة الكهرمائية الحدودي، إثيوبيا” وخلصت الدراسة إلى أن القدرة التخزينية المثلى للسد هي 14.5 مليار متر مكعب فقط لا غير، وبالتالي فإن إسقاط المفاوض المصري قضية “حجم السد” من المفاوضات رغم المعلومات السابقة لديه يؤكد أنه لم يكن سهوا، بل عمداً.

ذلك أن لجنة الخبراء الدولية المعنية بتقييم الدراسات الإثيوبية لسد النهضة الإثيوبي الكبير في تقريرها النهائي والذي صدر في 31 مايو سنة 2013 أثبتت أن الدراسة المائية بسيطة للغاية، وليست على مستوى من التفصيل والدقة العلمية والموثوقية التي تلائم سد بهذا الحجم والأهمية والتأثير الإقليمي مثل سد النهضة، وأثبتت أيضا أن تقييم الأثر البيئي والإقتصادي-الاجتماعي للسد المقدم من إثيوبيا كان مقصورًا على المناطق الواقعة أعلى موقع السد في إثيوبيا ولم تعالج الآثار الاجتماعية والاقتصادية في دول المصب.

 الدراسات الفنية أظهرت أن تخزين 19 مليار متر مكعب في خزان سد النهضة هو الحجم الكافي لتوليد الطاقة الكهربائية وليس 74 مليار

وقالت اللجنة أنه تم تحديد ارتفاع السد، الذي يتحكم في حجم الخزان، دون النظر إلى التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في دول المصب. وشككت اللجنة في قدرة للسد، وهي 6000 ميجاوات، وقالت إنه يجب مراجعتها، وأوصت اللجنة صراحة بإجراء دراسات إضافية لتقييم الآثار الإقتصادية والبيئية والاجتماعية للسد وأخذها في الاعتبار أثناء التصميم ولتحديد “الحجم المناسب” للسد.

وزير الخارجية المصري كشف عن أن الدراسات الفنية أظهرت أن تخزين 19 مليار متر مكعب في خزان سد النهضة هو الحجم الكافي لتوليد الطاقة الكهربائية وليس 74 مليار. واستشهد بدراسة أجراها الخبير الإثيوبي ميهاري بيين، وهي بعنوان: ما هي كفاءة سد النهضة الإثيوبي الكبير؟ والمنشورة في 20 يوليو/تموز 2011، والتي جاء فيها أن سد النهضة حُدد له حجم مبالغ فيه. وأكدت الدراسة أنه من الممكن تخفيض التكلفة الإجمالية للسد بنسبة تتراوح بين 40 و45% على الأقل لو تم بناء سد أصغر حجما وبكفاءة أعلى لتوليد نفس الكمية من الطاقة الكهرمائية.

وبينت الدراسة أن كفاءة سد النهضة الحالي في توليد الكهرباء لن تزيد عن 33% فقط، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالإنتاج العالمي لسدود الطاقة الكهرومائية والتي يبلغ متوسطها حوالي 55%. وخلصت الدراسة إلى أن سدا بحجم أقل بكثير مما هو عليه الآن وبإرتفاع أقل سيكون أكثر كفاءة وأكثر جدوى من حيث التكلفة، ما يقلل الآثار الإقتصادية والبيئية في دولتي المصب، السودان ومصر.

وقال الخبير الإثيوبي في دراسته أن هايليماريام ديسالين، وزير الخارجية الإثيوبي في حينه ورئيس الوزراء لاحقا، قال في مقابلة تليفزيونية أن سد النهضة الإثيوبي الكبير يستند إلى دراسة أجراها مكتب الاستصلاح الأمريكي في سنة 1964. واقترحت الدراسة سدًا أصغر بكثير بسعة 1400 ميجاوات ويعرف باسم سد الحدود، وارتفاعه 85 مترًا، وخزانًا يبلغ حجمه خمس حجم سد النهضة الإثيوبي الكبير، 14.5 مليار متر مكعب، وبتكلفة 1.5 مليار دولار أمريكي، وعندما يشير أحد إلى ذلك يتم تصنيف منتقدي المشروع على الفور على أنهم مرتبطون بأحزاب المعارضة و”الجماعات الإرهابية”.

أثبت شكري في مذكرته إلى مجلس الأمن أثاراً كارثية للسد بحجم 74 مليار على الحياة في مصر. وقال إن انخفاضًا في المياه بمقدار مليار متر مكعب فقط سيؤدي، في القطاع الزراعي وحده، إلى فقدان 290 ألف شخص لدخولهم، وفقدان 309 ألف فدان من الأراضي المزروعة، وزيادة قدرها 150 مليون دولار في الواردات الغذائية، وخسارة قدرها 430 مليون دولار في الإنتاج الزراعي. وستشهد الأراضي المزروعة زيادة في الملوحة، وستزداد تكلفة الواردات الغذائية زيادة هائلة، وسيستفحل التحضر بفعل نزوح السكان من المناطق الريفية، مما سيؤدي إلى زيادة البطالة ومعدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية. وأكد شكري أنه مع تزايد النقص في المياه واستمراره على مدى فترة طويلة أثناء الملء والتشغيل، تحدث تداعيات لا تعد ولا تحصى على اقتصاد مصر وعلى استقرار البلد الإجتماعي والسياسي.

يجب أن نشير إلى حدثين مهمين عند الحديث عن التفاوض على حجم وسعة خزان سد النهضة. الأول وقع قبل توقيع إعلان المبادئ بستة أشهر، حيث زار وزير الري المصري، حسام مغازي، موقع سد النهضة، وتعرض الوزير لهجوم إعلامي واتهام بالإعتراف بالسد؛ فكتب مقالا نُشر في جريدة (المصري اليوم) يبرر فيه الزيارة، فأثبت أنها تمت بموافقة السيسي. وقال إنه تفقد السد المساعد والذي يرفع حجم تخزين من 14 مليار متر مكعب الى 74 مليار، وقال “إن ما رأيناه فى موقع العمل يتيح مجالاً للتفاوض بشأن أبعاد ومواصفات السد، وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة لمصر، لما أكدته الدراسات الوطنية من خطورة التأثيرات السلبية التى يمكن أن تنجم عن السد بأبعاده المعلنة”.

أما الحدث الثاني فقد وقع عقب توقيع اتفاق مارس/آذار 2015 مباشرة، حيث صرح وزير الخارجية الإثيوبي، تيدروس أدحانوم، لوكالة الأناضول التركية “إن مصر لم تطرح خلال المفاوضات التي سبقت التوقيع على وثيقة مبادئ سد النهضة مقترحا يطالب بتخفيض سعة تخزين المياه بالسد”.

إن إغفال إدراج ملف “حجم السد” المبالغ فيه ضمن المطالب المشروعة لمصر في المفاوضات، رغم علم المفاوض المصري بالآثار الكارثية للسد بسعة 74 مليار متر مكعب على مصر، يستدعي التحقيق والمحاسبة، أما التفاوض بلا سقف زمني لتوقيع اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل السد مع إثيوبيا، رغم عدم إلتزامها باتفاق إعلان المبادئ الذي وقعته في 2015، ورغم تنكرها لكل الإتفاقيات التاريخية المتعلقة بنهر النيل، فهي مفاوضات وهمية، وغطاء لتمكين إثيوبيا من فرض الأمر الواقع واستكمال بناء السد بحجمه العدائي الذي يهدد شريان حياة مصر.

بقي أن نشير إلى أن منظمة الأنهار الدولية، وهي منظمة دولية تعنى بالأنهار الدولية العابرة للحدود وتعمل في أكثر من 60 دولة حول العالم ومقرها في نيويورك، وصفت السد بأنه “مضيعة للوقت والمال ومسيس حيث يتم بناؤه لدوافع السياسية”، وعلقت المنظمة الدولية على اتفاق إعلان المبادئ الموقع في مارس سنة 2015 بقولها “إن الطبيعة السرية للمساعي الدبلوماسية تجعل من الصعب- وربما من غير الحكمة- التكهن بشأن التنازلات التي تم تقديمها، وطبيعتها، ومن قدمها، بما فيها مصر- التي تحولت من منتقدة شرسة لسد النهضة- إلى الموافقة فجأة على المشروع”.

المصدر : الجزيرة مباشر