ليلة في المخيم!

المخيم

ليلةٌ أخرى من ليالي الشتاء الحارة الطويلة، ليالي الشتاء طويلة جداً، تنام وتستيقظ، ثم تنام مجدداً لتستيقظ، لكن هنا في هذا الفناء الواسع، تجد عدة أُسرٍ متكومة في الزوايا الضيقة، وبعضها ملتفة كدائرة مغلقة، زجاجات الماء تُوزع على العائلات، كل امرأة تمد ذراعيها لآخر ما استطاعت جامعةً أولادها في حضنها، الصمت خيم على الجميع، ولكن في زاوية أخرى من البيت يقف الرجال مستعدين متأهبين لأي اقتحام متوقع.

ديسمبر/كانون الأول، كانت الأمطار تتساقط بغزارة، و لكن هذا لم يمنع طائرات الاستطلاع التي تشبه بصوتها صوت الذبابة من التحليق فوقنا، جفوننا متهدلة من أثر السهر و الأرق الذي لا يفارقنا، كيف لا، و الليلة تبدو ساخنة، بل ساخنةً فوق المعتاد، البيوت الملازمة للتخوم أمست خاوية بعدما هجرها سكانها ؛ لأن الاجتياح البري بدأ بالتوغل وها هو يزحف نحو بيتنا، أمي تستمع إلى الراديو وأناشيد الثورة، إنها تذكي الحماسة والبطولة فينا، ترسل بوهجها فتدفئ قلوبنا الخائفة، أبي يذرع البيت جيئةً وذهاباً، البيت مظلمٌ للغاية، لا توجد أية إنارة مضاءة، سوى لهيب شمعة صغير يتراقص أمام عيوننا الواجمة، متى ستنتهي الليلة ؟ الحي كله معتم، الظلام سائد الآن و بقوة، كانت عادةً منتشرة يعرفها الصغير قبل الكبير، الخطوة الأولى : إطفاء البيت بالكامل؛ حتى لا تنصب رشقات رشاشات الجنود علينا، أو كي لا يسقط فانوسٌ حارق فيحيلنا رماداً، أو صاروخ فيشتت عظامنا، أما الخطوة الثانية : الابتعاد عن الحائط قدر الإمكان؛ حتى لا تتساقط الحجارة علينا.

الدقائق لا تمر وكأنها حملت في جوفها صخرة صماء، سماعات المستوطنات تردد كلماتٍ بالعبرية، أصوات أقدام الفدائيين تذرع المخيم بسرعة كبيرة، يخيل لك وكأنما مروا مر الريح الخاطفة.

صوت طرقات عنيفةٍ على الباب، شخصٌ يدق الباب بكلتا يديه، يفتح أبي بعجل، إنه جارنا (سعيد)، سعيد السمين، يتصبب عرقاً، يلهث ويقول بأصواتٍ متقطعة: ” الجيبات، الجيبات العسكرية قريبة جداً، صرتم في مرمى النار، أفرغوا البيت حالاً “، لكن أين سنذهب؟ لا يوجد مكانٌ آمن في المدينة كلها.

من بطن الحارة خرج أمامنا شبحٌ لا نبصر وجهه لشدة الظلام

خرجنا مسرعين من بين الأزقة التي داستها أحذية الفدائيين قبل دقائق، جيراننا أيضاً خارجون، الأزقة ضاقت بنا، لا تتسع لهذا الحشد الكبير، نعبر الظلام، و كأننا مجموعة من العمي، لا أحد فينا يتعجب من قدرتنا على السير في الظلام، أصبحنا سرباً نعرف بعضنا البعض و نعرف العائلة المتأخرة عن اللحاق بنا، إنهم بيت أبي إبراهيم، المرأة تقف بالشرفة، تستطلع زوجها وأبناءها بقلق، بينما الزوج يجلس في زاوية ضيقة مع بضع رجالٍ آخرين يتسامرون، ظنوا أن الأمر سيمر بسلام، و لكن الكشافات بدأت بالرماية فأصابتهم جالسين، كان مشهدهم مستفزاً للجنود، محقراً لهم ودباباتهم، مرت دقائق حسب الرجال فيها أن الأضواء عميت عنهم، و لكن ضوءاً أحمر يركض مسعوراً نحوهم، قذفته طائرةٌ من علوٍ فأصابتهم، بينما صرخت النساء و بكى الأطفال، و جمُدَ الرجال مكانهم، و كأن صيحةً أُخرجت من بوق إسرافيل، صاروخٌ آخر كان صيحة البعث، استفقنا من هول الصدمة، جفت الدموع، و خبت الصرخات، ثم أخذنا نركض من زقاقٍ لآخر، كان الجيبات قد طوقت الحي والشوارع الرئيسة، بقينا بين مخالب الجنود، الطائرات من فوقنا و الرصاص يمر من جانبنا، و الجنود في البيوت خلفنا، و الفوانيس الحارقة أشعلت الليل، فأضاءت الأرض من تحتنا “يهرم ابن آدم و يشبّ فيه اثنتان: الحرص وطول الأمل”، هذا كان مدادُنا، الطاقة التي أمدتنا بالقدرة على السير، نسير لكن لا نعلم إلى أين !

من بطن الحارة خرج أمامنا شبحٌ لا نبصر وجهه لشدة الظلام، نور القمر يعكس ظلالاً على وجهه، إنه أيمن الابن الأكبر لأستاذ اللغة العربية العجوز، يقودنا ونحن نسير خلفه وكأنه حادينا، أخيراً عُلِمت الوجهة، سنقضي الليلة في بيت الأستاذ. كان فناء بيتهم واسعاً ويتوفر فيه حمامٌ بات عمومياً، النساء باهتات الوجوه، الرجال في الزاوية مضطربون، يقطعون الوقت بالأحاديث والتوقعات التي لا مقياس لصحتها، حول من صار أسيراً أو أمسى شهيداً.

صوت هدير محركات العربات العسكرية يقترب، و الطائرة باتت على مقربةٍ منا، أكاد أقسم أنها حطت فوق السطح، هل هي ساعة الصفر ؟ اضواءٌ تخترق العتمة، تبحث عن أجسادٍ لتحيلها جثثً متصلبة.

ضرباتٌ قويةٌ بالهروات و من بساطير الجنود تدق الباب العنف، سكت الخوف عنا و قتلته الضربات، العيون على الباب متجمعةٌ شاخصة، بلغت القلوب الحناجر، ليس بيننا و الموت سوى باب، بابٌ كأنه سراب، الأمهات يعتصرن فلذات أكبادهن، و يقرأن آيات الرسول ليلة الهجرة، ” و جعلنا من بين أيديهم سدًّا و من خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون “، آياتٌ رافقتنا في كل الاحتياجات، كان و مازال مفعولها معجزاً. الآباءُ ينظرون نظرة وداعٍ لعوائلهم، يحملون أسلحةً بدائية: عِصِّي، وحجارة، بالإضافة إلى السلاح الأبيض، أدركت أن حرب شوارعٍ ستكون بمواجهة جيشٍ نظاميٍ صهيوني، اخترق الصمت صوت رشقات الرصاص، كانت طلقات الفدائيين الذين يحتمون خلف براميل حديدة وأكياس رملية. أخيراً أتى المدد ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.

امتدت المعركة حتى ساعات الفجر الأولى، صوت الأذان يختلط مع أزيز الرصاص

انبطح الجميع على أرض الفناء، غير آبهين بالبرد، يحاولون نزع قشرة الأرض؛ ليصنعوا منها غطاءً يقيهم الرصاص المسكوب.

امتدت المعركة حتى ساعات الفجر الأولى، صوت الأذان يختلط مع أزيز الرصاص، متحدياً عنجهية المحتل، ومع صوت السماعات التي تردد كلماتٍ بالعبرية، يُطلب فيها من الجنود الانسحاب والتراجع على الفور، ولكن أسودنا ما أمهلوهم لحظة، فأخذوا يفرون بدباباتهم وطائراتهم متقهقرين، حاملين جرحاهم وقتلاهم، جارين أذيال الخيبة.

انتهت المعركة حتى أجلٍ آخر، وبعد أن تأكد الرجال من انقشاع الصهاينة، فُتِح الباب، وأضيئت الأنوار فسرت الكهرباء جذلةً، متراقصةً داخل المصابيح، وصدحت التكبيرات من الحناجر، هنأ الجميع بعضهم بالسلامة، لكن الصمت عاودنا مجدداً، كانت هناك جثتان مضرجتان بالدماء، أصابهما رصاص الغدر، الذي تسلل من النافذة، وطرحهما تسيقان الأرض بدمائهما الزكية، إصاباتٌ كثيرةٌ في المكان، أبواق سيارات الإسعاف يتعالى نفيرها، مجزرةٌ وقعت في فناء الأستاذ، أصواتٌ، دماء، تكبيرات، دموع، وغادرتني المرئيات.

آخر ما أذكره أني كنت محمولةً في حضن أبي، أبصر الطريق يمر سريعاً عن جانبي، عندما استفقت عند العصر، كنت في بيتنا وإخوتي، بيتنا الذي تحول لثكنةٍ عسكريةٍ قذرة، دنسته بساطير الصهاينة، لا أعلم ماذا أرادوا من البيت حتى قلبوه رأساً على عقب، كما في كل جولةٍ همجية يشنونها.

كل شيءٍ استحال خراباً، كيف لهم أن يعرفوا ؟  فقطيع ضباعٍ منبوذ، لا أرض له، ولا سماء، كيف له أن يفهم علاقة الأرض بالبنين؟

جولة التنظيف والتطهير تبدأُ، و ما إن تنتهي حتى تبدأ جولة وحشية دامية أخرى، و لتترى هذه الحوادث الداميات من حينٍ لآخر، مبينةً عنجهية المحتل و صلفه، مؤكدةً على صمود شعبنا و تمسكه بحقوقه المشروعة و أرضه.

المصدر : الجزيرة مباشر