فصول من رحلتي إلى اليمن السعيد (5): الختان وطقوسه!

عبد الله الأحمر

“أنا الختين..اختن یا خان بشفرة الهندوان..أنا فلان بن فلان، وخالي فلان بن فلان..أنا حديد على حديد، أنا نار الله الوقيد..أنا زربة العشق من دخل فيها تنشب”.

هذا ما كان يقوله الختين قبيل ختانه. وكانت بعض القبائل تؤخّر عملية الختان إلى أن يبلغ الولد 18 عاما. وذلك لاعتبارات قبلية. ويطلقون على الشاب غير المختون في تلك المناطق اسم الرغل أو الختين.

وقد توافقت القبائل على أن الختين أو الرغل معفى من حمل السلاح ولا يدخل في إطار العرف القبلي المسمى (الغرم)، وهو الصيغة التي توافق عليها أهل القبائل في الحروب والديات.. لذلك يعد الختان بداية مرحلة الرجولة، وبداية التفكير في الزواج.

ذكر “ولفريد تيسيجر” في كتابه (فوق الرمال العربية) الذي دوّن فيه رحلاته إلى شبه جزيرة العرب، أنه سأل (ابن قبينه) عن “سبب إرجاء أهله لعملية ختانه حتى كبرت سنّه، فأجاب بأن هذه هي العادة عندهم، بل إن أبناء قبيلة (المهرة) لا يختنون حتى ليلة زفافهم”.

وأورد فيه أيضا ما شهده سابقا في (تهامة) من أن عمليات الختان تكون في الفضاء العام ويشهدها الناس، ويقول “وما أن انتهت العملية (الختان) حتى قفز (الختين) إلى الأمام وأخذ يرقص رقصا جنونيا على وقع الطبول أمام الجمهور بينما تسيل الدماء على فخذيه”.

وقرأت ذات مرة عن عادة بعض القبائل في نواحي صعدة تقريبا، أن عملية الختان لها طقوسها كما ذُكرت سابقا، مع إضافة أن من اختارها قرينة له في المستقبل، تشهد ختانه من خلال السماع في زاوية من زوايا البيت، فإذا علا صوته بآلامه يفض كل اتفاق عُقد بين العائلتين والله أعلم!.

بعد ثلاثة أو أربعة شهور من ولادته قرّرنا القيام بعملية الختان لابني حسام، فتّشت في دفاتر الأسماء فلاح لي لقب المرزوقي في جنوب اليمن، تواصلت مع بعضهم لعلّني أظفر بشيء أعود بي إلى أهلي الذين يقولون إنهم من سلالة بني سليم، فلم أظفر بجديد أكثر مما ذكره سابقا المرحوم محمد المرزوقي، وأعجزني المسير في تتبّع آثار أجدادي من خلال الوثائق، فقرّرت خوض عملية ختان ابني بعيدا عن القبيلة وأعرافها. فأخذناه إلى مشفى صنعاء وكان طبيبا جراحا سودانيا ماهرا هو الذي قام بعملية الختان، ونجا الرضيع من “شفرة الهندوان”، على رغم أن العديد من أصحابنا أنذاك ومن أصول تونسية كانوا يخيّرون الذهاب إلى (المطهّر) والتي تنتشر مكاتبهم في أماكن مختلفة في مدينة صنعاء، ولكن قناعتي كانت وما تزال الختان الآمن هو من يقوم به الطبيب في المشفى.

دُهشت أو قل صُعقت من المشهد، وخِلت أن كل رفاقي من المخابرات التونسية

دعاني إلى حفلة زفافه وهو ما يزال طالبا في الثانوية وللتو يطرق باب عتبة السنة السابعة عشر. بعدما أنهينا الدوام المدرسي حملتنا السيارات مجتمعين مدرسين وإدارة المدرسة واتجهنا صوب بيت العريس. أوقفنا السيارات في مكان منخفض يشبه الواد، وتطل من هناك تلّة مرتفعة بها جمهرة من الناس، وما إن نزلنا من السيارات حتى اصطف الناس بأزيائهم اليمنية التقليدية، وخناجرهم في غمدها تزيّن حزام كل واحد، ورفع كل واحد منهم سلاحه صوب السماء وبدأ إطلاق النار بكثافة، وقال لي ممّن خَبِر هذه المشاهد، ذلك هو عرفهم في استقبال الضيوف. وصلنا على أزيز الرصاص، ولا صوت اليوم يعلو على صوت المعركة! وبدأ أهل الذّكر ممن اصطحبونا بتحيّة خاصة للجموع من بعيد نسيت ألفاظها، ثم بدأنا بمصافحة كل الحاضرين بدءا من اليمين، وعندما انتهينا، تجمّع حولي طلابي ونحن في التلّة، وهم يتنافسون على إكرامي. وكل واحد منهم يقدّم لي سلاحه قائلا: تفضّل أستاذ جرّب!..

دُهشت أو قل صُعقت من المشهد، وخِلت أن كل رفاقي من المخابرات التونسية، وعادت الهواجس الأمنية تقضّ مضجعي في يقظتي، وظننتها ولّت، ولا تنقصنا إلا صورة وأنا شاهر سلاحي!..

تذكّرت أيام التجنيد الاجباري بجزيرة زمبرة ومنزل الحبيب، كيف عاقبونا بالتجنيد دون التدرّب على السلاح، وحتى الرياضة الحربية منعونا منها، فبقينا في تعلّم الخطوة لأشهر، ثم أكملناها بمقاومة زحف الرمال، وهذا ما جنيناه من التجنيد الاجباري!.

تمنّعت من لمس أي قطعة من أسلحتهم، بل قل هاجس المحافظة على الصفة المدنية قيّد شهوة جامحة اضطرمت نارها داخلي، وأربكت توازني النفسي والعقلي. والشعور بالظلم والقهر لا يعادله شعور. وها هي فرصة امتلاك أحد أدوات رد ظلمهم تلوّح لي بيديها، وليس بيني وبينها حائل.. غِبت عن الحضور وأنا بينهم، أسمع حديثهم، ولكنني كنت منشدا إلى سماع صوت يعلو من داخلي وكلّه غضب وغيظ. سمعت صيحات اخوتي وأخواتي التي نُقلت إلينا، رأيت الدماء تسيل من كل عضو من أجسادهم الطاهرة، يستغيثون بي، كأنني الأمل!، وقد رأيت في ما يحمله طلابي أملا.

أيقظتني صيحاتهم وإصرارهم: بالله يا أستاذ لا تخجلنا خذ سلاحي!، وكل يتباهى بمميزات سلاحه، وأنا الأمي بينهم، وفي لحظة انقلبت الموازين، فأصبحوا هم أساتذتي في ما يعلمون وأنا الأمي بين أيديهم !..

استجمعت أنفاسي، وأعدت ترتيب أفكاري ودلفت بالحجج المنطقية التي تُذهب عني الحرج، ولا تترك لهم مجالا لوسمنا بالجُبن ونحن نعلّمهم دينهم! ووُفّقت إلى إخراج كلامي ليحقق المقصد، فقلت لهم نحن المدرّسون نرعى وننشئ الجنود والعلماء، وهم يحملونها أو يصنعونها فلا تشغلوننا بما هو ليس لنا، وما لم نُخلق له، فرضوا بجوابنا.

أتذكّر كنت حاملا لآلة تصوير، وأخذت بعض الصور وأنا في عزّة ومِنعة بين طلابي وأهاليهم، فهم يفدوننا بأرواحهم ما دمنا في ضيافتهم، ولا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم، وبعد الضيافة واستكمال المشهد أخذت (الفيلم) وأعدمته حتى لا أرى صوره، ولا تنفلت منه شرارة صورة من صوره، وأنا أعلم أن السّير في المهاجر سيطول بنا، ولا داعي من إضافة منغّصات جديدة، فما فينا يكفينا!

بعد جلسة التلّة التي تزيّنت بعاداتهم الترحيبية الحميمية، توجّهنا إلى حجرة الضيافة، فكانت حجرة متواضعة يتوسّطها مائدة كبيرة يقارب طولها ثلاثة أمتار وعرضها أكثر من متر وامتلأت بالأرز واللحم، فدخلنا مباشرة في الأكل، وما إن بدأنا الأكل حتى سمعنا طلقات نارية أقوى مما استقبلونا بها، فعلمنا أن ضيفا صاحب مقام عال قد حلّ ركبه بعدنا، وبينما نحن منهمكون في الأكل، إذ بزعيم قبيلة حاشد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رحمه الله يطلّ علينا في حجرة الأكل، وجلب مرافقوه معهم نوعية فاخرة من القات، وما أدراك ما القات، لونه أخضر ناضر، وقامة أعواده فارهة، توحي بعناية خاصة به، وله رائحة لا تُقاوم، أما طعمه فاسأل عنه أهله! بعد الأكل سلّمنا على الشيخ وجلسنا جميعا نستمع إلى حكايا الناس.

لم تفارقني تلك الصور لمدة، وبدأت بتفكيك بعض طلاسم الشخصية اليمنية، التي كلّها عزة وأنفة، فهم محاربون ومسالمون في الوقت نفسه، ولن يرضخ اليمني إلى الضيم أبدًا، مهما طال به وتمدّد. فشفرة الهندوان التي يظهرونها، وتعتبر جزءا من الزي اليمني الأصيل، تحمل من الدلالات العديدة ما يجعلها مفتاح فهم أولي لكل من يريد الفهم.

كنّا نحرص على الالتقاء في مناسبة الأعياد الدينية، فقد اجتمعنا في صنعاء مرة

لم تتوفّر فرصا كثيرة لزيارة المناطق اليمنية، فقد كان أغلب وقتي بصنعاء، ولكن قمت بزيارة أحد أبناء قريتي كان مدرسا هو وزوجته في قرية الطويلة من محافظة المحويت، وهو الصديق صالح الكاروس. وتعتبر تلك المنطقة من أجمل المناطق التي تطيب فيها السياحة، وارتفاعها جعل منها درّة جبلية، طقسها بارد. وما زلت أحتفظ بصور طبيعية فيها، وصور لابني حسام وقد غُطِّى رأسه بالشال الفلسطيني الأحمر قبل أن يتقن المشي والركض. كان الطريق إلى الطويلة جميلا جدا ومررنا كما ذكّرني أخي صالح بقرى شبام وكوكبان.

كنّا نحرص على الالتقاء في مناسبة الأعياد الدينية، فقد اجتمعنا في صنعاء مرة، والتقينا مجموعة من عائلات الاخوة التوانسة بمدينة إب عند الأخ لزهر التومي. وكان ذلك في آخر رمضان حيث قضينا عيد الفطر معا. ومما تحتفظ به الذاكرة، روحانيات رمضان في المسجد الكبير، كان الشيخ عبد الله حمود الإمام وهو شخصية مشهورة وذكر لي الأخ لزهر أنه هاجر إلى أمريكا في أواخر التسعينات. كان الشيخ حمود صاحب صوت جميل، وخطيب مفوّه، ومبدع بمواعظه النوعية، واختيار ألفاظه. كانت فترة القيام قبل موعد السحور، خرجنا من بيت لزهر، ووصلنا إلى المسجد فوجدناه ممتلئا داخله، وتكاد ساحته الخارجية تمتلئ، فكان نصيبنا في آخر الساحة. وكانت تلك النفخات من أجمل ما عِشت في حياتي.

المصدر : الجزيرة مباشر