الجاسوس الإسرائيلي الصديق!

إفرايم هالفي

من القواعد المسلم بها أنه عندما يمتدح العدو خصمه، فإن ذلك الخصم لا بد أن يراجع مواقفه، لأن ذلك المديح قد يعني أن العدو يحقق مصالحه على حساب هذا الخصم.

وإذا كان ذلك صحيحاً بشكل عام، فإن مديح رجل مخابرات العدو لبعض أفراد من خصومه قد يعني أحد أمرين: إما أنه يريد أن يسقطهم في نظر شعوبهم بشكل متعمد، وإما أنه يعبر بصدق عن تقديره لخدمات قام بها هؤلاء الأفراد، وحينذاك يصبح المديح عاراً عليهم، وتصبح الإشادة من رجل المخابرات تأكيداً لدور العمالة الذي قام به هؤلاء الأفراد.

وبالطبع لا يمكن اعتبار القاعدة السابقة قاعدة مطلقة، فمن الممكن أن تنتاب البشر أحياناً لحظات صدق وأمانة وتجرد، تجعلهم أقرب إلى الملائكة، يعانقون أعداءهم ويقبلون لحاهم، ويديرون ليس فقط الخد الأيسر والأيمن، وإنما أيضاً القفا.. وهذا الاستثناء وارد وممكن بل ويحدث بالفعل خاصة مع الأمم التي تفقد ذاكرتها وثقتها بالنفس وطموحها إلى المستقبل.

وعلي ضوء ما سبق يمكن قراءة الكتاب الذي صدر قبل فترة تحت عنوان: ” رجل في الظلال” أو (Man in the shadows)   الذي كتبه رئيس الموساد الإسرائيلي السابق إفرايم هالفي .

التجربة قد علمتنا ألا نثق كثيراً في أدبياتهم التي يغلب عليها الذكاء الحاد في استخدام الخداع وبث الفرقة والدعاية

قد لا أضيف كثيراً إذا ذكرت أننا في العالم العربي ننظر بقدر كبير من الشك في كل ما يصدر عن المسؤولين الإسرائيليين، وأن التجربة قد علمتنا ألا نثق كثيراً في أدبياتهم التي يغلب عليها الذكاء الحاد في استخدام الخداع وبث الفرقة والدعاية، وفي حالة رجل المخابرات فإن هذا الشك يتزايد، إذ تلك هي أدواته ومفردات مهنته، فهو خبير في التلاعب بالأخبار، وبث المعلومات والإشاعات، وربما يكون أميناً فقط في أداء مهمته، ولكنه لن يكون أميناً فيما وراء ذلك، فهو كاذب منافق شرير عنيف شرس.. إلخ..

وربما ليس من الإنصاف أن ننظر إلى هذه الصفات من جانبها السلبي فقط، فمن المؤكد أن عميل الموساد يري في هذه الأدوات ضرورة لخدمة مصالح بلاده العليا، ولا ينظر إلى وظيفته من هذا المنظور الأخلاقي، فهو على كل حال لا يعمل في بعثة تبشيرية، أو يسعي لنشر الأخلاق السامية والمبادئ العليا، وإذا صدقت مقولة إنه لا أخلاق في السياسة، فمن العبث محاولة البحث عنها في أعمال رجال المخابرات.

هذا الكتاب يتحدث عن بعض أنشطة الموساد في الشرق الأوسط، وعن علاقات حميمة أقامها الكاتب (رئيس الموساد السابق) خلال خدمته الطويلة في جهاز المخابرات الإسرائيلي مع العديد من الشخصيات العربية القيادية.

إن بعض سطور الكتاب كاشفة عن سلسلة من الخدع والأوهام التي عاشتها أجيالاً متعاقبة في الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي كانت تتصاعد فيها أناشيد العودة والصراع المقدس وإسرائيل المزعومة، كانت القنوات السرية تتفتح كالشروخ في عواصم عربية مختلفة، وأفراد مثل ” إفرايم ” يتحركون بحرية ويطلعون على الأسرار والخفايا، ويدبرون المؤامرات ويحبكون الخدع ويسقطون الآمال..

يلقي الكتاب بعض الضوء كذلك على التنافس بين الأجهزة المختلفة داخل الكيان الإسرائيلي، ومحاولات بعضها الاصطياد في الماء العكر لبعضها الآخر، ولكنه يشير بوضوح إلى سيادة المفهوم الأمني في إسرائيل على المفهوم السياسي، وبعض الأمثلة التي ضربها على التنافس بين وزارة الخارجية والموساد تؤكد ذلك، فالكلمة النهائية كانت للموساد في صناعة القرار السياسي الإسرائيلي.

يوضح الكتاب كذلك العلاقة العضوية التي تربط ما بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بشكل لا يبدو فيه من التابع ومن المتبوع

ورغم ما تعمد الكاتب نشره بشكل دعائي متسلل حول مدي انفتاح الدولة الإسرائيلية، ورسوخ التقاليد الديمقراطية فيها، فإن ما ورد من أحداث يتناقض مع ذلك بشكل حاد، ومن ذلك مثلاً ما أورده حول فرض حظر النشر فيما يخص محاولة اغتيال خالد مشعل في أحد شوارع عمان، وهي المحاولة الفاشلة التي تم فيها القبض على اثنين من عملاء الموساد، بينما لجأ أربعة أخرون إلى سفارة إسرائيل في الأردن.

يوضح الكتاب كذلك العلاقة العضوية التي تربط ما بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بشكل لا يبدو فيه من التابع ومن المتبوع، فهي علاقة ندية، فسرها الكاتب بالمصالح الاستراتيجية المتطابقة بين البلدين، دون أن يشرح كيف يمكن لدولة صغيرة أن تتماس مصالحها الاستراتيجية مع دولة كونية مثل الولايات المتحدة الأمريكية.

بطبيعة الحال لا يمكن لأمثال إفرايم أن يكونوا شهوداً علي التاريخ ، وشهاداتهم مطعون فيها من حيث المبدأ، وفي النهاية فإن الحكم للتاريخ، ولم يكن الهدف من هذا المقال إصدار أحكام قيمية لصالح أو ضد أحد.. وإنما تسليط الضوء على بعض صفحات كتبها رجل من الموساد.

المصدر : الجزيرة مباشر