شهود برج الجلاء

وائل الدحدوح

يتمدد على أريكته، نصفه الأعلى تسنده مخدّتين، إحداهما اختلط بطنها بظهرها من ثقل المرفق، والثانية بقيت سامقة لِلُطف الأكتاف التي تستريح على ريشها، فتجد فيها راحة عجيبة، تذهب عنه تعب اليوم.

عيونه بين شاشة يقسّمها الحدث إلى أجزاء ثمانية وأحيانا ستة، وتقلّ حينا آخر عندما تطلق صفارات الإنذار صوتها معلنة عن رشقات صاروخية يطلقها وجع غزة، أو تعالى دخان حرائق تلتهم الحجر والبشر، الكتب وألعاب الأطفال، فيجثم برج الجلاء على ركبتيه، دون أن يمنحوه فرصة البكاء. جثا على نفسه وكأنه يحمي ما في بطنه من ذاكرة قلب غزة. يأتيك صوت وائل المنهك من وجع الذاكرة التي تهاوت أمام عينيه، يحدّثك عن ذاكرة السنين التي وثّقت معاناة غزة لأكثر من عقد ونصف، فيها كل الأوجاع التي غرزت فيها القنابل بكل أنواعها، كما يغرز الأسد أنيابه في جسد ضحيته، فاستباحت جسد الإنسان، والإنسان هو الهدف.

كم مرة نام ببزّته وخوذته البيضاء، وواقيته الزرقاء، فهو كمطفئي الحرائق، وسائقي سيارات الإسعاف، وممرضي وأطباء الشفاء، ينامون في سياراتهم وفي بهو المشفى. ينامون بعين واحدة، والأخرى تنظر، يصمّون أذنا عن الأصوات، وتبقى الثانية متحفزّة، وأنفاسهم دُرّبت على رائحة الجروح، فالجرح له صوت ورائحة، يفقهها وائل وصحبه.

صورة البرج المادية في شموخه وقامته الفارعة تغيظهم

هنا كانت هبة عكيلة وهي تضع اللمسات الأخيرة لتجوب غزة طولا وعرضا. من هناك عرفنا تفاصيل غزة، بنايات، شوارع، أزقة، مدارس، مشاعر، معاناة، جوع، عتمة، عزّة.. حوى ذلك الشامخ الذي جثم، على أكبر ثروة إعلامية، سجلتها عدسات الجزيرة. وثّقوها وهم لا يعلمون أيعودون إليه أم يسبقونه في الغياب؟ وثّقوها بدموع عيونهم، وطَرق نبضات قلوبهم، وشرارات بريق عقولهم، ونفحات مشاعرهم التي تتبدّل في الدقيقة الواحدة من النقيض إلى النقيض.

صورة البرج المادية في شموخه وقامته الفارعة تغيظهم، إطلالته عليهم من عليائه تستفزهم، فَهُم أعداء الشموخ والعزة، ولا يريدون رؤية واقف يرمقهم ويسجّل عليهم كل سكناتهم، ليُخبر بها كل العالم! حتى في جثومه تحدّاهم، ولم تتطاير أجزاؤه بعيدة عنه، لتمنعهم من الشعور بالشماتة والضحك من خوف أجزائه. جثا وهو واقف وهو يجثو لمّ في حضنه كلّه حتى يموت كلّه! وشهد له موته شامخا. وحدّثنا باطنه بما حواه، وحمل ما فيه إلى خالقه، ليشكو ظلم الظالمين، وأخذ معه إلى ربّه كل ما جمعه مع قرائن وشهائد وشهود، لتُعرض يوم الحساب على الملأ، وتشهد عليهم صورهم وأصوات طائراتهم، وأنين الحجارة، ودماء الشهداء، وبكاء الأطفال. سيكون المشهد عظيما، وستكون غزة الشاهدة علينا كلّنا.

آه.. كم عرّتنا غزة مما نخفيه عنها!

آه.. ماذا فعلتم بنا يا وائل ويا هبة؟!

لم تترك لنا شهاداتكم ما نحاجج به عجزنا! سقطت الإنسانية وما تزال مستمرة في سقوطها، ما لم تهنأ غزة!

المصدر : الجزيرة مباشر